مناطق الهامش وتحديات المرحلة الراهنة: (3)
هل من دورٍ للحكماء بعد؟ (أ)
السودان بكل ما حباه به الله من نعم وثروة، خاله المراقبون أن يكون صماماً لأمن غذائي إقليمي ومصدراً مستديماً لثروات الأرض ـ باطنها وظاهرها ـ ومحوراً إستراتيجياً للأمن وللسلم الدوليين بما يمثله من توليفة خاصة قلما تتميز بها دولة أٌخرى من دول العالم، فالسودان بجواره المتسع وإثنياته المتعددة المتحدرة من جذور إفريقية وعربية لجدير بأن يلعب دور الوسيط الفاعل في تقارب الرؤى وصهرها لمصلحة ذوي الحاجة إليها إقليمياً ودولياً.
من نعم الله تعالى على السودان الثروة البشرية المتباينة الإثنيات واللغويات والمتعددة الثقافات وهي بحق جديرة بخلق لوحة إجتماعية ذات ألوان زاهية يتوشَّح بها النسيج الإجتماعي السوداني، ذلك النسيج الذي آمل أن تتمدد رقعته ليتمكَّن كل مواطن من خلالها النهل من معينه والتفيؤ بفيئه. إن تشكيل المجتمع وإخراجه في تلك اللوحة الفنية البرًّاقة التي تروق للجميع يحتاج بلا محالة إلى توظيف جُل معطيات العقل المصحوبة بالحكمة في إستيعاب حقائق المجتمع تلك ومن ثمَّ صبها في قالب الواقع السوداني لإخراج تلك اللوحة الأخَّاذة؛ وأحسب أن المهمة هذه هي من صميم التشكيليين السياسيين والإجتماعيين.
إن القدرة على فهم وإستيعاب العقلية السودانية مضافاً إليها ديموغرافيتها ليست بالأمر العصي علي ذوي الأمور، وإن تثبيت أركان تلك الديموغرافيا المتعارضة المصالح على أرضية السودان لتمكينها من الثبات على واقع القبول الممتد في نفوس مواطنيه ليس أيضاً بالمضن الذي يرهق كاهل أحدٍ حادبٍ على السودان.
لقد ذكرتُ من قبل أن تضييق نقطة إنزلاق السودان لهاوية المشاكل مرهون بأُفق الساسة السودانيين ودرجة المرونة التي يتمتعون بها لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة؛ فتتسع وتضيق طرداً مع تمدد الصبر ورحابة الصدر لدى هؤلاء الساسة. إن النتائج المترتبة على مآل تضييق نقطة الإنزلاق هذه لتؤول إلى نهاية الصفر وتزول معها النتائج الكارثية المتعاقبة. نستخلص من سياق الكلمات السابقة أن أدوات التشكيل لابد لها من التوفُّر لصياغة تلك اللوحة المبتغاة ولابد من تواجد الصُيَّاغ المهرة أصحاب الرُؤية النافذة والمتَّقدة الذين يضعون لمسات هذه اللوحة ببراعة. من أدوات الصياغة هذه والتي تعتبر عنصراً رئيسياً في إرساء دعائم تلك اللوحة الإجتماعية هي الحكمة. فما هي الحكمة؟ وما دورها في تلك الصياغة؟ وهل تتوفر عناصرها لدى ساستنا وإن توفرت فهل تمت أو يمكن إستخدامها بغية النيل من قطافها؟
لقد وردت كلمةُ الحكمةُ في كثير من آيات القرآن وهي صفة لله تعالى وللإنسان وهي عنواناً للوحي ومنهاجاً للعمل. إن الغاية من الحكمة تشير إلى الخطوات الموزونة في الطريق المستقيم وتحويلها إلى سلوك عملي يحقق للإنسان ثبات خطواته وإستقرارها في ما يفعل وفي ما يترك، ويهيئ لها الإنسجام في العلاقات العامة والخاصة بحيث تقل حالات الخطأ والاهتزاز وتكثر فيها فرص الإمتداد والتركيز. فقد قيل أن الحكمة شيئٌ يجعله الله في القلب ينوِّره الله به كما ينوَّر البصر فيدرك المبصر الأشياء على حقيقتها؛ والحكيم هو العارف المدبر بأفضل الأشياء وأفضل العلوم ويحسن دقائق الصناعات بتدبيرها وإتقانها. عندما تلتقي حكمة الفكر والعمل فإنهما تكفلان للإنسان الرؤية الواضحة من خلال الفكر المتَّزن الهادي والسلوك المستقيم المبني على أساس الوضوح في الخطى والأهداف وهذا هو عين ما يعبر عنه صاحب ’’ تاج العروس’’ : بأنها العدل في القضاء؛ والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها ولهذا إنقسمت إلى علمية وعملية، وقيل الحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعمل. كثيرة هي الآيات التي تناولت كلمة الحكمة ومدلولاتها، فقد دلت بعض آيات الحكمة في القرآن الكريم على الغاية والدلالة منها وهي التعبير عن حالة الوعي الذاتية الكامنة في داخل الإنسان التي تتيح له الرؤية السوية للأشياء فتدفعه إلى التصرف السليم والرأي السديد، يقول سبحانه وتعالى: " يُؤتِي الحكمة مَن يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتِي خيراً كثيراً وما يذَّكر إلا أولو الألباب" سورة البقرة، الآية 269
إن تفاعل الشعوب وإنصهارها بعضها ببعض لضرورة قصوى تقتضيها وتفرضها واقع الحياة المعاش والذي يدفع تلك الشعوب للتلاحم والتعاضد بغية إرساء لبنات متينة تقويها على مجابهة تحديات البقاء ثم الإرتقاء والسمو لمصاف الأمم الأخرى. ولكي يقوى كل شعبٍ أو أمة فلابد له من أسباب القوة المتينة الراسخة والمتمثلة في وحدته الداخلية أو كما يسمَّى بوحدته الوطنية. فالوحدة الوطنية إذن هي إئتلاف عنصري الوحدة والوطنية؛ فالوحدة تعني تجميع الأشياء المتفرقة المتناثرة في مكان واحدٍ أما الوطنية فقد ذهب فيه الباحثون مذاهب شتى فمنهم من يرى أنها إنتماء الإنسان إلى دولة يتجنس بجنسيتها ويدين بالولاء إليها ويرى البعض أن الوحدة بمفهوم الفكر السياسي المعاصر هي إتحاداً طوعياً بين الإثنيات التي تدرك أن وحدتها تكسبها نمواً زائداً وميزات إقتصادية وسياسية تعزز مكانتها الإقليمية والعالمية؛ فلا جدال إذن أن الوحدة الوطنية هي البوتقة التي تنصهر فيها القوميات والجماعات ذات الثقافات واللغات المتعددة والديانات المختلفة.
مما سبق يتَّضح بجلاء أن السودان دولة مترامية الأطراف ومتعددة الثقافات والألسن وهي أحوج من غيرها لإرساء دعائم وحدتها الوطنية المبنية على أسس من الحكمة والكياسة؛ والسودان غني بعناصره البشرية التي تحتاج للإمتزاج ولكي يتم ذلك الإمتزاج والإنصهار بين عناصر الأمة السودانية المختلفة يحتاج ذلك إلى رجال يمتلكون نفاذ البصيرة ورجاحة العقل لغرس القيم النبيلة في أفراد مجتمعه وبذلك تنتشر قيم الفضيلة في نفوسهم وتختفي معها الرذائل لتندثر إن كانت لها وجود. السودان زاخرٌ أيضاً بالنوابغ من الرجال الذين لا تغيب عليهم علل السودان وأسقامه التي أعجزته عن النهوض بدوره الطليعي بين شعوب العالم. فلا أبالغ إن قلتُ أن دولة كالسودان ـ تزخر بمواردها البشرية والاقتصادية الجمَّة ـ لحريُّ بها أن تكون في مصاف الريادة والسيادة ولن تتأتى تلك الريادة والسيادة من الرغاء والخواء الفكري أو السياسي ولكن بتملك الحكمة وسيطرتها على نواصي التفكير والتدبير وبصواب الرأي وثقاب النظرة وصلاح العمل.
إن ثمار الحكمة لكثيرة جداً إن جدَّ الجادُّون والحادبون على غرسها في مجتمع السودان البكرة طبيعته والطيب نبته، فلا تزال الأمة السودانية بتشعبها هذا رؤوف قلبها، حنين صدرها، رقراقة مقلتها تنصر المغلوب وتعين المكروب وهذه خصال ومزايا أوجدها الخالق تعالى في هذا الشعب الفريد المفطور إحساناً والمتدفق إنسانيةً وكرامةً. إن توفر المقومات الحميدة والأُسس المتينة هذه لجديرة بالتوظيف الأمثل لمصلحة الشعب السوداني على إمتداد الوطن وهنا تكمن أهمية الدور الريادي والقيادي لمن يسوس الأمة ويقوم على أمر المِلَّة من ذوي البطانة والحكام. هنالك جملة من الأمور تطفي السكينة والطمآنينة في نفوس الأمة وعليها يتوطَّد النسيج الأجتماعي لتلك الأمة وتمتتن معها أواصر الإلفة والثقة بين المواطن والمواطن من جانب والإعتزاز بالمواطنة وحبِّها بين المواطن والوطن من جانب آخر؛ وهنالك من النقائض ما تنخر في جسد الأمة تقويضاً وهدماً وتعصف ببنيانها عصفاً وركاماً. من خضم هذه المعطيات يتجلى إلهام الساسة وتبرز حكمة القوم في وضع بصمة الجمال في لوحة النسيج الإجتماعي الذي تحدَّثتُ عنها أعلاه.
هنالك أشياء جديرة بالذكر لمعينات التشكيل الإجتماعي السوداني منها ما يلي:
1 ـ الدور الحكومي: تعتبرالحكومات وقياداتها رأس الرمح في قيادة دفة شعوبها وتوجيها نحو آفاق الإنسجام والإنصهار مع بعضها البعض وذلك من خلال رسم السياسات الرشيدة وترسيخ معاني ومفاهيم الوحدة الوطنية لشعوبها؛ كيف لا وبيدها كل المقومات التي تعينها على النهوض بذلك بدءاً بتحديد الكفاءات الإنسانية وبرمجة الخطط الملائمة وتخصيص الأموال اللازمة لتنفيذها على الوجه الذي يسهم في ترسيخ معاني العدالة ويعمِّق مفهوم المواطنة لدى أفراد الشعب الواحد الذي لا تميِّزه عن بعضه البعض موازين الموالاة أو القرابة أو الحسب أو الإنتماء القبلي والإثني. من المحاور الرئيسية الهامة التي تظهر فيها بجلاء عوامل ذلك التناغم الآتي:
~ القوات النظامية: متمثلة في الجيش، الشرطة، الجمارك، الحياة البريَّة؛ ففي قاعدة هذه القوات ـ التي تتكون عناصرها من كل أطياف الإثنيات السودانية ـ تكمن عوامل تفاعل النسيج الإجتماعي السوداني بكل معانيه الحقيقية وتنصهر الإثنيات بعضها ببعض لتنتج لونية ثقافية فريدة يمكن الإعتماد عليها لإبراز التباين اللغوي والثقافي والديني الموحِّد للأمة الواحدة. أما قمة هذا الهرم فتعوزها مساواة الإستيعاب لكلياتها المختلفة والتي كثيراً ما أدخلت الإستياء وعدم الرضاء في نفوس كثير من الشباب مما يفسَّر على أنه تمييز محدد هدفه وبيِّن مراده. إن بروز المليشيات المسلحة المدعومة من قبل الأنظمة الحاكمة والتي تحارب بالوكالة عنها قد أضرت ضرراً بليغاً بمصداقية هذه الأنظمة وأظهرت إنحياز هذه الأنظمة لصفوف أقلية ما على حساب الوطن ونسيجه الإجتماعي الذي تهتك كثيراً كنتيجة حتمية لأفعالها وهذه تقود بصورة آلية لردود أفعال مغايرة لمحاولة الحفاظ على ميزان التوازن الإجتماعي.
~ التعليم: أعني هنا التعليم الذي يقصد منه تعميق مفاهيم الوحدة الوطنية المبنية على غرس معاني الإخوة في أولئك النشئ وتبيين معنى المواطنة والمواطن وحقوق كليهما وإظهار التباين اللغوي والثقافي على أنه مظهر من مظاهر التنوع الإيجابي في كل الأوطان المتعددة الإثنيات. هنالك حقيقة أخرى وهي أن لا أحد ينكر أو يجحد نعمة الله تعالى على عباده وما يتفضَّل بها على بعضهم دون البعض الآخر وعليها لا ننكر أيضاً سعي الموسرون بنهل ذويهم من معين المدارس الخاصة على ألّا تثني تلك المدارس والجامعات ـ ذات الخمس نجوم ـ السلطات المسئولة بالقيام بواجبها نحو تطوير المدارس الحكومية لأبناء المعسرين بغية نيل حظوظهم من التعليم مما يدرء معها ضغينة الحرمان. فعدم مقدرة أبناء الوطن الواحد على تكملة التعليم رغم النبوغ الواضح لأغلبهم يبعث الألم والحرقة في نفوسهم ويجلب عليهم أمراض الحقد على ذوي الأمر والولاة ويضعف الشعور بقيمة المواطنة الحقَّة لديهم وهذه أسباب أخرى مساعدة في تفكك النسيج الإجتماعي السوداني.
~ الخدمات الصحية: لا تنفصل هي الأخرى عن رصيفاتها من حيث الأهمية والحفاظ على تماسك البنية الإجتماعية القوية. إن توفر تلك الخدمات تعين المواطن على الإنتفاع بها دون الحاجة إلى قطع الفيافي والهضاب إلى مراكز المدن الكبيرة للحصول عليها وهذا يضفي بدوره أعباءاً غير يسيرة على كاهل أولئك النفر كان من الممكن الإستفادة منها أو تقليلها وعليها تتحتم الضرورة الإهتمام وترقية وتطوير أداء هذه الخدمات في كل أرجاء القطر حتى تعم فائدتها الجميع. نواصـــــــــــل
mosonur2003@yahoo.no النور الوكيل الزبير
النرويج
هل من دورٍ للحكماء بعد؟ (أ)
السودان بكل ما حباه به الله من نعم وثروة، خاله المراقبون أن يكون صماماً لأمن غذائي إقليمي ومصدراً مستديماً لثروات الأرض ـ باطنها وظاهرها ـ ومحوراً إستراتيجياً للأمن وللسلم الدوليين بما يمثله من توليفة خاصة قلما تتميز بها دولة أٌخرى من دول العالم، فالسودان بجواره المتسع وإثنياته المتعددة المتحدرة من جذور إفريقية وعربية لجدير بأن يلعب دور الوسيط الفاعل في تقارب الرؤى وصهرها لمصلحة ذوي الحاجة إليها إقليمياً ودولياً.
من نعم الله تعالى على السودان الثروة البشرية المتباينة الإثنيات واللغويات والمتعددة الثقافات وهي بحق جديرة بخلق لوحة إجتماعية ذات ألوان زاهية يتوشَّح بها النسيج الإجتماعي السوداني، ذلك النسيج الذي آمل أن تتمدد رقعته ليتمكَّن كل مواطن من خلالها النهل من معينه والتفيؤ بفيئه. إن تشكيل المجتمع وإخراجه في تلك اللوحة الفنية البرًّاقة التي تروق للجميع يحتاج بلا محالة إلى توظيف جُل معطيات العقل المصحوبة بالحكمة في إستيعاب حقائق المجتمع تلك ومن ثمَّ صبها في قالب الواقع السوداني لإخراج تلك اللوحة الأخَّاذة؛ وأحسب أن المهمة هذه هي من صميم التشكيليين السياسيين والإجتماعيين.
إن القدرة على فهم وإستيعاب العقلية السودانية مضافاً إليها ديموغرافيتها ليست بالأمر العصي علي ذوي الأمور، وإن تثبيت أركان تلك الديموغرافيا المتعارضة المصالح على أرضية السودان لتمكينها من الثبات على واقع القبول الممتد في نفوس مواطنيه ليس أيضاً بالمضن الذي يرهق كاهل أحدٍ حادبٍ على السودان.
لقد ذكرتُ من قبل أن تضييق نقطة إنزلاق السودان لهاوية المشاكل مرهون بأُفق الساسة السودانيين ودرجة المرونة التي يتمتعون بها لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة؛ فتتسع وتضيق طرداً مع تمدد الصبر ورحابة الصدر لدى هؤلاء الساسة. إن النتائج المترتبة على مآل تضييق نقطة الإنزلاق هذه لتؤول إلى نهاية الصفر وتزول معها النتائج الكارثية المتعاقبة. نستخلص من سياق الكلمات السابقة أن أدوات التشكيل لابد لها من التوفُّر لصياغة تلك اللوحة المبتغاة ولابد من تواجد الصُيَّاغ المهرة أصحاب الرُؤية النافذة والمتَّقدة الذين يضعون لمسات هذه اللوحة ببراعة. من أدوات الصياغة هذه والتي تعتبر عنصراً رئيسياً في إرساء دعائم تلك اللوحة الإجتماعية هي الحكمة. فما هي الحكمة؟ وما دورها في تلك الصياغة؟ وهل تتوفر عناصرها لدى ساستنا وإن توفرت فهل تمت أو يمكن إستخدامها بغية النيل من قطافها؟
لقد وردت كلمةُ الحكمةُ في كثير من آيات القرآن وهي صفة لله تعالى وللإنسان وهي عنواناً للوحي ومنهاجاً للعمل. إن الغاية من الحكمة تشير إلى الخطوات الموزونة في الطريق المستقيم وتحويلها إلى سلوك عملي يحقق للإنسان ثبات خطواته وإستقرارها في ما يفعل وفي ما يترك، ويهيئ لها الإنسجام في العلاقات العامة والخاصة بحيث تقل حالات الخطأ والاهتزاز وتكثر فيها فرص الإمتداد والتركيز. فقد قيل أن الحكمة شيئٌ يجعله الله في القلب ينوِّره الله به كما ينوَّر البصر فيدرك المبصر الأشياء على حقيقتها؛ والحكيم هو العارف المدبر بأفضل الأشياء وأفضل العلوم ويحسن دقائق الصناعات بتدبيرها وإتقانها. عندما تلتقي حكمة الفكر والعمل فإنهما تكفلان للإنسان الرؤية الواضحة من خلال الفكر المتَّزن الهادي والسلوك المستقيم المبني على أساس الوضوح في الخطى والأهداف وهذا هو عين ما يعبر عنه صاحب ’’ تاج العروس’’ : بأنها العدل في القضاء؛ والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها ولهذا إنقسمت إلى علمية وعملية، وقيل الحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعمل. كثيرة هي الآيات التي تناولت كلمة الحكمة ومدلولاتها، فقد دلت بعض آيات الحكمة في القرآن الكريم على الغاية والدلالة منها وهي التعبير عن حالة الوعي الذاتية الكامنة في داخل الإنسان التي تتيح له الرؤية السوية للأشياء فتدفعه إلى التصرف السليم والرأي السديد، يقول سبحانه وتعالى: " يُؤتِي الحكمة مَن يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتِي خيراً كثيراً وما يذَّكر إلا أولو الألباب" سورة البقرة، الآية 269
إن تفاعل الشعوب وإنصهارها بعضها ببعض لضرورة قصوى تقتضيها وتفرضها واقع الحياة المعاش والذي يدفع تلك الشعوب للتلاحم والتعاضد بغية إرساء لبنات متينة تقويها على مجابهة تحديات البقاء ثم الإرتقاء والسمو لمصاف الأمم الأخرى. ولكي يقوى كل شعبٍ أو أمة فلابد له من أسباب القوة المتينة الراسخة والمتمثلة في وحدته الداخلية أو كما يسمَّى بوحدته الوطنية. فالوحدة الوطنية إذن هي إئتلاف عنصري الوحدة والوطنية؛ فالوحدة تعني تجميع الأشياء المتفرقة المتناثرة في مكان واحدٍ أما الوطنية فقد ذهب فيه الباحثون مذاهب شتى فمنهم من يرى أنها إنتماء الإنسان إلى دولة يتجنس بجنسيتها ويدين بالولاء إليها ويرى البعض أن الوحدة بمفهوم الفكر السياسي المعاصر هي إتحاداً طوعياً بين الإثنيات التي تدرك أن وحدتها تكسبها نمواً زائداً وميزات إقتصادية وسياسية تعزز مكانتها الإقليمية والعالمية؛ فلا جدال إذن أن الوحدة الوطنية هي البوتقة التي تنصهر فيها القوميات والجماعات ذات الثقافات واللغات المتعددة والديانات المختلفة.
مما سبق يتَّضح بجلاء أن السودان دولة مترامية الأطراف ومتعددة الثقافات والألسن وهي أحوج من غيرها لإرساء دعائم وحدتها الوطنية المبنية على أسس من الحكمة والكياسة؛ والسودان غني بعناصره البشرية التي تحتاج للإمتزاج ولكي يتم ذلك الإمتزاج والإنصهار بين عناصر الأمة السودانية المختلفة يحتاج ذلك إلى رجال يمتلكون نفاذ البصيرة ورجاحة العقل لغرس القيم النبيلة في أفراد مجتمعه وبذلك تنتشر قيم الفضيلة في نفوسهم وتختفي معها الرذائل لتندثر إن كانت لها وجود. السودان زاخرٌ أيضاً بالنوابغ من الرجال الذين لا تغيب عليهم علل السودان وأسقامه التي أعجزته عن النهوض بدوره الطليعي بين شعوب العالم. فلا أبالغ إن قلتُ أن دولة كالسودان ـ تزخر بمواردها البشرية والاقتصادية الجمَّة ـ لحريُّ بها أن تكون في مصاف الريادة والسيادة ولن تتأتى تلك الريادة والسيادة من الرغاء والخواء الفكري أو السياسي ولكن بتملك الحكمة وسيطرتها على نواصي التفكير والتدبير وبصواب الرأي وثقاب النظرة وصلاح العمل.
إن ثمار الحكمة لكثيرة جداً إن جدَّ الجادُّون والحادبون على غرسها في مجتمع السودان البكرة طبيعته والطيب نبته، فلا تزال الأمة السودانية بتشعبها هذا رؤوف قلبها، حنين صدرها، رقراقة مقلتها تنصر المغلوب وتعين المكروب وهذه خصال ومزايا أوجدها الخالق تعالى في هذا الشعب الفريد المفطور إحساناً والمتدفق إنسانيةً وكرامةً. إن توفر المقومات الحميدة والأُسس المتينة هذه لجديرة بالتوظيف الأمثل لمصلحة الشعب السوداني على إمتداد الوطن وهنا تكمن أهمية الدور الريادي والقيادي لمن يسوس الأمة ويقوم على أمر المِلَّة من ذوي البطانة والحكام. هنالك جملة من الأمور تطفي السكينة والطمآنينة في نفوس الأمة وعليها يتوطَّد النسيج الأجتماعي لتلك الأمة وتمتتن معها أواصر الإلفة والثقة بين المواطن والمواطن من جانب والإعتزاز بالمواطنة وحبِّها بين المواطن والوطن من جانب آخر؛ وهنالك من النقائض ما تنخر في جسد الأمة تقويضاً وهدماً وتعصف ببنيانها عصفاً وركاماً. من خضم هذه المعطيات يتجلى إلهام الساسة وتبرز حكمة القوم في وضع بصمة الجمال في لوحة النسيج الإجتماعي الذي تحدَّثتُ عنها أعلاه.
هنالك أشياء جديرة بالذكر لمعينات التشكيل الإجتماعي السوداني منها ما يلي:
1 ـ الدور الحكومي: تعتبرالحكومات وقياداتها رأس الرمح في قيادة دفة شعوبها وتوجيها نحو آفاق الإنسجام والإنصهار مع بعضها البعض وذلك من خلال رسم السياسات الرشيدة وترسيخ معاني ومفاهيم الوحدة الوطنية لشعوبها؛ كيف لا وبيدها كل المقومات التي تعينها على النهوض بذلك بدءاً بتحديد الكفاءات الإنسانية وبرمجة الخطط الملائمة وتخصيص الأموال اللازمة لتنفيذها على الوجه الذي يسهم في ترسيخ معاني العدالة ويعمِّق مفهوم المواطنة لدى أفراد الشعب الواحد الذي لا تميِّزه عن بعضه البعض موازين الموالاة أو القرابة أو الحسب أو الإنتماء القبلي والإثني. من المحاور الرئيسية الهامة التي تظهر فيها بجلاء عوامل ذلك التناغم الآتي:
~ القوات النظامية: متمثلة في الجيش، الشرطة، الجمارك، الحياة البريَّة؛ ففي قاعدة هذه القوات ـ التي تتكون عناصرها من كل أطياف الإثنيات السودانية ـ تكمن عوامل تفاعل النسيج الإجتماعي السوداني بكل معانيه الحقيقية وتنصهر الإثنيات بعضها ببعض لتنتج لونية ثقافية فريدة يمكن الإعتماد عليها لإبراز التباين اللغوي والثقافي والديني الموحِّد للأمة الواحدة. أما قمة هذا الهرم فتعوزها مساواة الإستيعاب لكلياتها المختلفة والتي كثيراً ما أدخلت الإستياء وعدم الرضاء في نفوس كثير من الشباب مما يفسَّر على أنه تمييز محدد هدفه وبيِّن مراده. إن بروز المليشيات المسلحة المدعومة من قبل الأنظمة الحاكمة والتي تحارب بالوكالة عنها قد أضرت ضرراً بليغاً بمصداقية هذه الأنظمة وأظهرت إنحياز هذه الأنظمة لصفوف أقلية ما على حساب الوطن ونسيجه الإجتماعي الذي تهتك كثيراً كنتيجة حتمية لأفعالها وهذه تقود بصورة آلية لردود أفعال مغايرة لمحاولة الحفاظ على ميزان التوازن الإجتماعي.
~ التعليم: أعني هنا التعليم الذي يقصد منه تعميق مفاهيم الوحدة الوطنية المبنية على غرس معاني الإخوة في أولئك النشئ وتبيين معنى المواطنة والمواطن وحقوق كليهما وإظهار التباين اللغوي والثقافي على أنه مظهر من مظاهر التنوع الإيجابي في كل الأوطان المتعددة الإثنيات. هنالك حقيقة أخرى وهي أن لا أحد ينكر أو يجحد نعمة الله تعالى على عباده وما يتفضَّل بها على بعضهم دون البعض الآخر وعليها لا ننكر أيضاً سعي الموسرون بنهل ذويهم من معين المدارس الخاصة على ألّا تثني تلك المدارس والجامعات ـ ذات الخمس نجوم ـ السلطات المسئولة بالقيام بواجبها نحو تطوير المدارس الحكومية لأبناء المعسرين بغية نيل حظوظهم من التعليم مما يدرء معها ضغينة الحرمان. فعدم مقدرة أبناء الوطن الواحد على تكملة التعليم رغم النبوغ الواضح لأغلبهم يبعث الألم والحرقة في نفوسهم ويجلب عليهم أمراض الحقد على ذوي الأمر والولاة ويضعف الشعور بقيمة المواطنة الحقَّة لديهم وهذه أسباب أخرى مساعدة في تفكك النسيج الإجتماعي السوداني.
~ الخدمات الصحية: لا تنفصل هي الأخرى عن رصيفاتها من حيث الأهمية والحفاظ على تماسك البنية الإجتماعية القوية. إن توفر تلك الخدمات تعين المواطن على الإنتفاع بها دون الحاجة إلى قطع الفيافي والهضاب إلى مراكز المدن الكبيرة للحصول عليها وهذا يضفي بدوره أعباءاً غير يسيرة على كاهل أولئك النفر كان من الممكن الإستفادة منها أو تقليلها وعليها تتحتم الضرورة الإهتمام وترقية وتطوير أداء هذه الخدمات في كل أرجاء القطر حتى تعم فائدتها الجميع. نواصـــــــــــل
mosonur2003@yahoo.no النور الوكيل الزبير
النرويج