بسم الله الرحمن الرحيم
" فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق
وقولهم : قلوبنا غلف!! بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا"
صدق الله العظيم
بدرالدين يوسف دفع الله السيمت
مقدمة
لقد كان الشعب السوداني رائدا وسابقا ، لشعوب الأرض قاطبة، في قيام شعب أعزل بثورة تزيل نظاما عسكريا مدججا بالسلاح،وذلك في حد ذاته عمل عظيم وفريد يستحق التمجيد، من كل الأحرار، الحادبين على خير الأنسانية، وتقدمها وإزدهارها.
بيد أنه لهذه الثورات محاذيرها، لأنها قد تفشل، وإذا نجحت فإنها تنجح على أشلاء بعض الضحايا، وتخريب بعض الممتلكات العامة، هذا فضلا عن أنها ليست ثورة، بالمعنى العميق للكلمة، الذي يستهدف التغيير الجذري والذي يقلب الأوضاع رأسا على عقب، لأنها مجرد انتفاضة عاطفية، يفجرها اليفع من الشباب، كرد فعل للفساد القائم،والتخبط الماثل أمام أعينهم.
ثم إنها فوق هذا وذاك، و لدى التحليل الأخير، ثورات خارجية، تبدأ من الآفاق وتنتهي في الآفاق، ثم إنها ثورات قابلة للسطو من سدنة القديم، لافتقارها للوعي بأصل المشكلة، ولقد حدث هذا للشعب السوداني مرتين، مرة في أكتوبر 1964، ومرة في أبريل 1985
لقد أدى الفهم الخاطئ للإسلام، والسياسات غير المدروسة، والتخليط المزري للعهد الراهن، إلى فصل الجنوب عن الشمال، بصورة موجعة لقلب كل حر، يجري في دمه، حب أهله وحب وطنه.
لقد فضل الجنوبيون بنسبة ساحقة، الخروج من الدولة الدينية التي تستغل الدين لأغراض السياسة، وتهدر الحقوق الأساسية للمواطنين، وتعزل السودان عن بقية العالم، تنفيذا لبرامج الهوس الديني الذي سود وجه البسيطة، بالفهم الخاطئ للإسلام.
إن الدين أسمى وأرفع من الدولة، وإن فصل الدين عن الدولة، يؤدى إلى تعظيم الإسلام وتكريمه، ويؤدي إلى استقرار الدولة وتنظيمها، وما الحكومة الدينية ألا فكرة خاطئة، شقي بها المسلمون، منذ التحاق نبي الإسلام العظيم بالرفيق الأعلى، ثم ساروا بها في شعاب التاريخ، في حروب دينية، سفكت فيها الدماء، في سبيل الملك العضوض وفي سبيل الجاه والمال والسلطان... وقد يستغرب الكثيرون، إذا علموا أن فكرة الحكومة الدينية، ليس لها سند، في كتاب الله الكريم، ولا في سنة نبيه المطهرة، وسوف نثبت ذلك بالأدلة القاطعة، والنصوص الحاسمة، في مقالات سوف تأتي تباعا.
فهل يتعلم السودانيون من تجاربهم السابقة ، حتى لا يلدغوا من جحر مرتين؟
هل يمكن أن يكون شعب شمال السودان، رائدا ومعلما، لبقية شعوب الأرض، في تفجير الثورة الفكرية التي تبدأ من الداخل، من القلب السليم والعقل الصافي، ثم تمتد إلى الخارج، فتملأ الأرض نورا وكمالا وحرية ... ثورة تبدأ من الأعماق ، ثم تتفجر في الآفاق؟؟
ثورة سلمية هادئة، لا تسفك فيها الدماء، ولا تخرب فيها الممتلكات العامة... ثورة لا تستند على المظاهرات ، ولا على المواكب.
ثورة فكرية ناضجة، تقوم على الفهم والدراسة، والتأمل والتعمق... ثورة تلحق الهزيمة النهائية بالتفكير الديني السلفي، الذي أعلن فشله وتخبطه في السودان وفي إيران وفي أفغانستان وفي الصومال، وهو يحاول الآن سرقة ثورة شعبي تونس ومصر... ثورة تأتي لحكام الخرطوم من حيث لا يحتسبون!! لقد إحتسبوا المال والسلاح ، والسياسة، والمكر والدهاء، ولكنهم لم يحتسبوا الله العظيم... الآن بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
لقد ظن حكام العهد الراهن أنهم سينفردون بالشمال، وسوف يطبقون عليه قوانين سبتمبر المذلة، وأفكار الأخوان المسلمين، ومن لف لفهم في الفهم الخاطئ للإسلام، ولكن المفاجأة الكبرى، أن هزيمة الفكر السلفي الحاسمة والنهائية، سوف تكون في شمال السودان، وسوف تكون من داخل المصحف،وبآيات القرآن التي تهد الجبال، و كفى بالله حسيبا، وكفى بالله شهيدا.
هل ينجح السودانيون في وضع الحجر الأساسي، لثورة الثوار الأحرار، بدون مال وبدون سلاح، وإنما بالثقة في الله العظيم والتوكل عليه ، والتسلح بسلاح النور والحق والكمال؟
مساهمة مني في هذه الثورة، أدفع إلى القارئة الكريم، والقارئ الكريم، بهذا المقال، والذي تتلوه مقالات أخرى، إن شاء الله، تستهدف نشر ثقافة جديدة، تقتلع العنف من جذوره، وتزلزل كل أركان التفكير الديني السلفي، وتلحق به الهزيمة النهائية الشاملة، ثم يهدي نورها خطوات الصلاح.
هذا الموضوع موضوع، عرفاني ، كتبته قبل مدة قصيرة، يلقي بعض الضوء على مواضع الخلل والنقص في دواخلنا، وعلى مواضع الكمال والوعي الكامنة في قلوب الناس جميعا، وأول الغيث قطرة.
صبح الظهور
ظل موضوع "تصاوير على حواشي القلوب" يلمع في عقول العارفين الفينة بعد الفينة، ، ويطوف بقلوبهم ساعة بعد ساعة، فيشرح الله صدورهم العوالي، بلطائف المعاني، في عسعس الليالي... ولكن الله فالق الإصباح كان يحبس تنفس صبحه، ويؤجل مفاتح فتحه، ويرجئ بزوغ شمسه، ويرجع تبلج نوره، حتى حان حينه، ودنت قطوفه.
الآن، سطعت الواردات السابحات السابقات، والعاديات ضبحا ، فالمغيرات صبحا... صبحا يتحدر نوره من الأعماق إلى الآفاق، نشوانا طربا، جزلان فرحا، يسابق هذا الصباح الجميل المبارك، في سبح عجيب، وفي فقه أعجب: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم"
كل من نزع للغرق في بحر الروح، نشط عقله، كأنما حل من عقال: " والنازعات غرقا* والناشطات نشطا"... بفضل الله، وبفضل هذا النشاط يدرك الناس فقه هذا التسبيح... ومن أدرك فقه التسبيح، أدرك أن الله قد دبرمسبقا أمرا: " والسابحات سبحا* فالسابقات سبقا* فالمدبرات أمرا"
الحمد الله المنعم المتفضل، الذي يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون... ومن روض هذا اللقاء، ومن قبس هذا الإيقان، نفحت ريحانة الأسرار، فأتحف الله أحبابه الأبرار، بكلما يحبون ويرضون ، حتى إكتملت مقالات عديدة، كان آخرها مقال "الحدود" الذي ختمه الله مدبر الأمر بحديث عن " الأخوان".
وبالرغم من أن بداية المحققين دوما محرقة، إلا أن نهايتهم دوما مشرقة، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس... فإذا أدركت أن البداية هي النهاية، أدركت أن الإحراق يلازم الإشراق في كل لحظة، وأن الوتر أعني الله، يعانق الشفع أعني الإنسان، في كل حين وفي كل آن، فتموت الأحزان: " لا تحزن إن الله معنا" ويذوب المخلوق في الخالق، في إستواء محرق خارق، لا ترى فيه أرضا ولا سماء، وهذا هو معنى قول الشيخ الأكبر محي الدين:
فإن بالفكر إذا ما استوى في أجلدي يتقد الجمر
فيصبح الكل حريقا فلا شفع يرى فيه ولا وتر
الحمد لله المنعم المتفضل، فقد كان الختام مسكا، إذ أن حديث الأخوان تضرب جذور كلماته في أرض المعاد، تحت شجرة الرضوان، حيث يؤلف المؤمن بين قلوب المؤمنين : " وألف بين قلوبهم" والمؤمن إسم من إسماء الله الحسنى، ومن هنا عرف العارفون أن المؤمن الحقيقي هو الله العظيم، فلا يؤمن بالله إلا الله، ولا يفل الحديد إلا الحديد، فبأي آلا ء ربكما تكذبان!! بالله من غير قيود، أم بالإنسان عقل الوجود!! أم بنزول الروح الأمين في كل صبح مبين!!
بفضل عظمة المؤمن العظيم ، إكتمل الإيلاف الحميم ، في قوله : "إنما المؤمنون إخوة"... فقرب البعيد القاصي، وتيسر العسير العاصي، فصار معنى الحديث : " المؤمن أخ المؤمن" أن الله أخ المؤمن، وما يقال عن المؤمن أخ المؤمن، يقال عن : "المؤمن مرآة أخيه" فالإنسان هو مرآة الله، التي يبصر بها وجوده: " كنت بصره الذي يبصر به" ...على هدي هذا الفهم السديد، وعلى ضوء هذا النور المديد، يفتح باب البيت العتيق، ويأتي الناس من كل فج عميق.
" وألف بين قلوبهم" هذه الآية تشير فيما تشير ، إلى أن الله وحده هو الذي يؤلف بين الإجزاء المتعادية والمتنافرة في قلب كل إنسان، ولو حاول أحد من الناس ذلك، فإنه لا يستطيع، حتى ولو أنفق أعظم الأنبياء، جميع ما في الأرض من آلاء: " لو أنفقت ما في الأرض جميعا، ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم" .
توليف الأجزاء المتنافرة والمتعادية في قلب كل إنسان، يكتمل أمره، ويعصر خمره، ويضرب زمره، بتقليب قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
بفضل هذا التقليب، تستقر المشيئة بخلق الإنسان الجديد، بيدي الله : " لما خلقت بيدي" ومن خلق بيدي الله، كان في مقام الإحسان، مقام رؤية الله ، الذي أحسن كل شئ خلقه، صنع الله الذي أتقن كل شئ، وذلك هو معنى إكماله لديننا، وإتمامه نعمته علينا، ورضائه الإسلام لنا دينا: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .
كل عارف يعتد بمعرفته، يعيش كل يوم، في فجر هذا اليوم الصادق، مصدقا لوعد الله، واقعا معاشا ملموسا " إنما توعدون لصادق* وإن الدين لواقع" فما يمنع الناس من معيشته كل يوم ، واقعا محسوسا ؟
الجواب : وجود تصاوير على حواشى القلوب!!
هذا اليوم الذي تعيشه، أثناء قراءتك لهذه السطور، هو الصبح القريب الموعود : " إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!!ّ" صبح لا يخبو ضؤه أبد الآبدين... ولكنك لاتكون راهب ديره، إلا إذا كنت عند مطالع خيره،!! نور لا تسطع أنواره، إلا إذا ظهر أخوانه... فهو قد قصر محاسنه على عشاقه، فلا يحازي إلا الموازي، ولا يشرق صباح الله، إلا إذا ظهر عشاق الله من مشارق الغيوب، ثم لاحوا في مطالع القلوب : " فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" .
وذلك ظهور باهر، بعرفان زاهر، في بحر زاخر، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، نصرا يؤيد الله به الذين آمنوا على عدوهم : " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" ... هذا هو وعد الله الذي لا يتخلف عن الواقع لحظة واحدة، وإن تخلف عن ذلك علم أهل الظاهر، كما هو مطوي في قول القاهر:" وعد الله لايخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لايعلمون* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا"
سبحان الله!! جميع الذين آمنوا لهم عدو واحد: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ".. من هو هذا العدو الواحد؟ الجواب: نفسك التي في إهابك، وبين جوانحك... العدو واحد لأن النفس واحدة: " ياأيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" وقديما قال النبي المعصوم: " أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.
سبحان الله!! كيف عميت قلوب أقوام عن هذا الصباح الجميل، الذي أرسل الله فيه السماء مدرارا، فكانت جنات وكانت أنهارا، حتى ظهرت شمس خضر القلوب ، على أرض موسى العقول: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فتصبح الأرض مخضرة".
لقد رفرف روح الخضر على مجمع البحرين... بحر القلب الباطن و بحر العقل الظاهر، فاتكأ كل عبقري، على خضر قلبه، في مقام الإحسان، مقام رؤية الله: "متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان" ولكن لماذا عميت قلوب الناس عن كل ذلك؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
سبحان الله!! لقد فصلت الأعالي من نور الخضر ثياب سندس ألبستها كل عارف: " يلبسون ثيابا خضرا"... ثياب سندس تبرق من شدة لمعان تجليات النور القديم : " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق"
لقد نبت الخضر في عقول الأنبياء الباطنة، من نفس البذرة الموجودة في عقول الناس الظاهرة: " وجعل فيكم أنبياء" ثم إستوى الخضر على عرش القلوب بصورة متساوية في كل الخلائق، في رحمة وسعت كل شئ: " الرحمن على العرش إستوى".
إستواء ومساواة عجيبة، حتى أنك لو أخرجت كل نبات الدنيا ، لخرج من تحته خضر القلوب : " فأخرجنا به نبات كل شئ، فأخرجنا منه خضرا"
وهذا هو معنى قول السيد المسيح المثبت بإنجيل القديس توماس والذي عثر عليه في جرات مهجورة بنجع حمادي بمصرفي منتصف الأربعينات من القرن الماضي:
“I am the all and the all came from me!! And the all will attain to me!! Cleave a piece of wood and I am there!! Lift up the stone and you will find me there.”
وإنجيل القديس توماس، هو أعظم الأناجيل، إذ أن راويه، أحد الحواريين الإثني عشر، وقد روى كلمات المسيح كما سمعها من فمه الشريف ، بلغة أمه العبرية، فنضر الله وجه القديس توماس الذي سمع من نبيه مقالة، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع... أما الأناجيل الأربعة الباقية، فهي تحكي قصة السيد المسيح، التي تناقلها الرواة عن الحواريين، عبر الأيام، حتى ظهرت في نهاية القرن الأول، منقحة ومحررة من روايات عديدة ، ومترجمة إلى اللغة الإغرقية.
لكن لماذا لم يسمع الناس بذلك؟؟ الناس ما زالوا ينتظرون ظهور المسيح، ويحلمون بلقاء الخضر، كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول... الرسول فينا ومنا: " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" والمسيح تحت كل حجر، والخضر تحت كل نبات، فما بال وجوه الناس عليها من نفوسهم غبرة، وترهقها من همومهم قترة؟؟
لماذا لم يخرج الناس في يوم الخروج، وقد ناداهم المنادي من مكان قريب!! ما يمنعهم وما يحبسهم؟؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
سبحان الله!! في كل أيام الإسبوع السبعة، تنتصر طبول الحرب على رايات السلام، وكلما ظهرت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر ياباسات: " يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع للناس لعلهم يعلمون"
الآن، رجع لناس العقل والحواس، من بين المشكاة والنبراس، يوسف الصادق الصديق، متدثرا بقميصه الحادث التليد... الآن تزول كروبك ويرتد بصيرا يعقوبك!!
ومن السنبلات الخضر، يقترن خضر القلوب، بناس العقول في كل يوم من أيام الإسبوع السبعة ، فيستوي كل عارف على براق هذا الظهور، متذكرا لنعمة ربه الذي إستوى عليه، وإنقلب إليه في قران عجيب: " لتستوا على ظهوره، وتذكروا نعمة ربكم إذا إستويتم عليه، وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين* وإنا إلى ربنا لمنقلبون" .
سبحان الله!! من نور خضر القلوب، نبتت أشجار الرضوان الخضراء، فأوقد كل عارف جذوة تأويله، من شجرة رضوانه :" الذي جعل لكم من الشجر الأخضرنارا، فإذا أنتم منه توقدون" ... قوله: "نارا" إشارة لجذوة التأويل، ومن الشرارة يندلع اللهيب، ولكن خيار الناس شكوا وما زالوا يشكون في الجذوة، فقد قالوا:
بين إثنتين أسر أم أبكي قبس اليقين وجذوة الشك
جذوة التأويل هي شرارة قدسية، اندلع منها لهيب نور الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة ، كمشكاة فيها مصباح... المصباح مشتق من صبح الظهور!! ولكن لماذا لم ير الناس هذا النور المنحدر من كل صوب، فملأ المسالك والدروب، حتى ضاقت به الآفاق؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
الآن ، لقد حق لك أن تسألني ما هذه التصاوير؟ وما هي حواشي القلوب؟
قبل محاولة الإجابة، لابد من تقرير مسائل، يهمني تقريرها، ولا بد من الخوض في بعض الأصول، عسى أن تأتي الإجابة في طيات تلك المسائل، وتحت ظلال تلك الأصول.
المسألة الجوهرية: لقد سلك البشر طريقا خاطئا منذ أن وجدوا
أنفسهم على ظهر هذا الكوكب!!
يخطئ من يظن أن أزمة العالم ترجع جذورها إلى القرن العشرين، أو إلى القرون التي سبقته... ويخطئ من يظن أن مأساة السودان - والتي هي جزء لا يتجزأ من الأزمة العالمية - قد خلقها نظام الإنقاذ الراهن، والذي يعيش الآن في أخريات أيامه، بإذن الله .
يخطئ من تشغله المظاهر عن الجواهر!! إن مأساة الإنسان عميقة وضاربة الجذور في أرض القدم، منذ سحيق الآماد.
إن بؤس الإنسان الروحي وضياعه الوجداني ، أجل وأخطر، من أن ينظر إليه بمنظار الحلول السطحية ، ذات البعد الواحد، والتي لا تتسم بميسم التعمق والتأمل والتي تفتقر إلى مهارات الحذق وأبعاد الذكاء... تلك الحلول التي إفترعها السابقون، وتفنن في إتباعها اللاحقون المقلدون ، كلما دخلت أمة لعنت أختها.
تلك الحلول المتناقضة التي كانت تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض... تلك الحلول التي كانت تعالج المظاهر وتغفل الجواهر، فتعمى عن الأصول وتنشغل بالفروع ، صافحة الذكر عن الكليات ، غارقة في الجزئيات، في حجاب مبين : " وجعلوا له من عباده جزءا، إن الإنسان لكفور مبين" .
لقد سلك الإنسان طريق الخطأ ، طريق الخسران المبين، في نفس اليوم، الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل، وبذلك ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وقد ترتب على ذلك الخطأ الماحق، عواقب وخيمة، أعي تداركها حكمة كل حكيم وفكرة كل مفكر ، عبر العصور.
ماذا ترتب على قتل قابيل لأخيه هابل؟
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر ، قويهم وضعيفهم، أن القوة تصنع الحق، وان المادة هي كل شئ... منذ ذلك اليوم ترسب في ضمير الأقوياء منا، أن القتل يجعلك تستولي على مال أخيك، وأنت مستيقن أن الموتى كلهم مثل هابيل لن يعودوا أبدا، ليستعيدوا حقوقهم السليبة.
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر، أن وشائج القربى أمر لايأبه له، وإنما يؤبه لما نظنه مصلحتنا والفائدة التي تعود إلينا، تحقيقا لرغائب نفوسنا،ولذلك فإنه يجوز للإنسان القوي أن يقتل أخاه الضعيف ... وبالمثل فقد ترسب في ضمير الضعفاء منا ، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالمادة هي كل شئ... هكذا ترسب في عقول الأقوياء والضعفاء الخوف وأبناؤه الشرعيون الطمع والحسد والحقد والضغينة والمكر والخديعة، وما يستتبع ذلك من بطش وفتك، وقتل ذريع.
منذ ذلك اليوم الكالح، اختار الإنسان طريق الكفر والحجاب، وأدار وجهه لطريق الشكر والصواب : " إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا" ويستثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم... إنهم القلة القليلة، من بني آدم، التي عصم الله عقلها، فيممت وجها شطر قلبها، وجعلت بيوتها قبلة الشكر: " وقليل من عبادي الشكور".
إن العارفين المحققين لا يزالون يذكرون ذلك اليوم الرهيب، فهم ما زالوا يذكرون تفاصيله الموجعة، مثلما تذكر أنت تفاصيل الأمس القريب، بل أشد ذكرا، فهو محفور في حواشي القلوب، في واد مجدب يباب، لاتجري في شعابه إلا دماء هابيل ودماء من لحقه من أبنائه بأيدي إخوتهم !!
دماء عجز عن غسل ادرانها من وجه البسيطة، تدفق طوفان نوح العظيم ... لست أدري هل نتأمل في كل ذلك!!
الربانيون منا لم ينسوا ذلك اليوم الرهيب: " وما كان ربك نسيا"... فكل أخبار القرون الأولى، وبالذات قصة قتل النفس التي حرم الله، ما زالت مسطورة ومقروءة : " قال فما بال القرون الأولى* قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وكل من قرأ كتاب الوجود، بقراءة الربانيين، لم ينس أيضا: " سنقرئك فلا تنسى" ... الآن أريد أن أتلو عليك نبا أبني آدم بالحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال!! فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إنا علينا بيانه.
لست أدري إلى أي مدى يتذكر قراؤنا الكرام ذلك اليوم الرهيب، يوم كان جدنا هابيل، يمد يده السمحاء البيضاء ، لجدنا قابيل، متوسلا إليه برحم أمهما حواء قائلا : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"
لقد كان هابيل عارفا، يدرك علاقة الأخوة التي تربطه بأخيه، وكان يريد لأبنائه من بعده أن يدركوا هذه العلاقة، و يسيروا في طريق التقوى، فتودد إلى أخيه بقول الله الذي أجراه على لسانه: " إنما يتقبل الله من المتقين" .
كل ذلك لم يوقظ شيئا في عقل قابيل، فلم يتذكر ولم يخش... فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين، ومنذ ذلك اليوم فارق الناس طريق التقوى وسلكوا طريق الفجور، الذي قاد الناس إلى جحيم الحرب، التي ما غابواعنها في يوم من أيام دين الله، منذ ذلك اليوم الرهيب: " وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين* وما هم عنها بغائبين"
لقد تركت آثار أقدام سير الإنسان في طريق الفجور آثارا مدمرة ، على ضمير الإنسان المغيب ، ووجدانه المحجب، أغلالا وقيودا وأحقادا، ورثناها صاغرا عن كابر، وقد تجلت مظاهر هذه الأغلال في الإقتصاد والسياسة والإجتماع وفي العقائد الدينية، واختفت بطائنها في عقد نفسية مربكة مضطربة ومتناقضة ، إختلط فيها الحابل بالنابل!! إختلط فيها حبنا بكراهيتنا، ورحمتنا بقسوتنا، وقوتنا بضعفنا، وكرمنا بلؤمنا، وتسامحنا بحقدنا، وصلاحنا بفسادنا وحسناتنا بسيئاتنا وخيرنا بشرنا.
من أحشاء ضميرنا الخرب، نشأت فكرة الحرب المنظمة، التي لا يزال أوارها مشتعلا... لقد ترتب على الحرب المنظمة ، وما فيها من فتك وسلب، شرور وبيلة ، وأهوال مريعة، فرقت الإخوة في الإنسانية أيدي سبأ... منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، إختل النسيج الإجتماعي، وتم قهر الفرد البشري وإستغلاله ، قهرا أليما، و إستغلالا شنيعا، حتى صارالفرد مجرد أداة من أدوات الحرب، يسحق ويقتل ولا يبقى إلا الأيتام والأرامل، ونصب الجندي المجهول.
منذ فجر التاريخ البشري، مارس البشر جريمة الحرب، دون أن يخجلوا، أو يرمش لهم جفن، لأنهم لم يشعروا أن الحرب هي عين الفساد: " الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" ... وفي ذات الوقت، كانت القوى الملائكية، الكامنة في خبايا قلوبنا، تردد قول الله القديم، الذي يجريه على لسانها في كل حين: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"
ولكن الناس كانوا ولا يزالون يعتبرون سفك الدماء في الحروب، شرفا ودفاعا عن الأوطان، وزودا عن حياض العقيدة، وإصلاحا للناس... سبحان الله!! الحرب التي هي إفساد في الأرض يسميها عقلاؤنا إصلاحا: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون"
من بذرة قتل قابيل لإخيه هابيل، نمت شجرة الحرب، الشجرة الملعونة في القرآن، والتي خوفنا الله منها، ولكننا لم نزد إلا طغيانا وسيرا في طريق الحرب: " والشجرة الملعونة في القرآن، ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا"
من أغصان هذه الشجرة الخبيثة، ظهرت الطبقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، من أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وسادة وعبيد، وملوك ومملوكين، وساسة ماكرة وشعوب غافلة !!
لم تسلم أدياننا من هذه الطبقية المذلة لكرامة الإنسان، فقد عرفتها جميع الأديان !! فما من دين من الأديان إلا وفيه الوسطاء الذين يقفلون باب الرب الواسع، وبذلك صار إيمان الأكثرية من البشر، ضربا من ضروب الشرك، بل هو الشرك ذاته: " وما يؤمن أكثرهم بالله، إلا وهم مشركون"
ولكن الناس لم يرجعوا عن الطريق الخاطئ
لقد بلا الله الناس بالحسنات والسيئات فلم يرجعوا: " وبلوناهم بالحسنات والسيئات، لعلهم يرجعون" ... عجيب أمرنا نحن البشر، شرنا فتنة وخيرنا فتنة: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة"... لقد أحاطت بنا فتن الحروب،إحاطة السور بالمعصم، ولكننا لا نتوب عن الحرب ، ولا نتذكر أهوالها، بل لانرى ذلك أبدا:" أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون" ... لهذا السبب العتيد، فإنه لا تجدي معنا أية محاولة للإصلاح طالما كان ضميرنا المغيب، ينطوى على ما إنطوى عليه صدر جدنا قابيل: " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر*حكمة بالغة فما تغني النذر"
لقد حاول المنذرون من الأنبياء والمصلحين، رد الإنسان عن السير في الطريق الخاطئ، طريق الحرب، ولكن تيار الحرب كان جارفا وعاتيا وكاسحا، حتى إضطر بعض الأنبياء ووبعض المصلحين لخوض غمار الحروب ، بغية الوصول إلى شواطئ السلام، دون جدوى، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد.
ظلت البشرية سادرة في غيها، وظلت شواطئ الفردوس المفقود الآمنة الوديعة، حلما إنسانيا عزيز المنال... إنه حلم مثل الأفق، كلما إقتربت الإنسانية منه، إستعصم بالبعد عنها!! كل محاولة لإنهاء الحرب، تنتهي بحرب جديدة!!
لقد بذل الأنبياء كل الوسائل، لرد الإنسان لطريق الحق... وسائل الترغيب بجنان الخلود، ووسائل الترهيب بنيران الجحيم، ولكن كل ذلك لم يجد فتيلا... لقد أقام المصلحون الدول ودبجوا الدساتير، وشرعوا القوانين، ونظموا حقوق الإنسان ، إلا أن قابليهم إنتصر على هابيلهم، فتكسرت محاولات السلام، في الصومال وفي العراق وفي أفغانستان بل صار الإرهاب شبحا قائما في كل مكان، لايستثني الدول المتحضرة في أوربا وأمريكا... وحيثما إنتصرت الهدنة، التي نسميها خطأ سلاما، فإنها تكون إنتصرت على جثث الموتى من أخواننا، وعلى دموع اليتامى من أبنائنا، وعلى عويل الثكالى من بناتنا.
أقول قولي هذا وليس غائبا عني، أن جهود الأنبياء لم تذهب سدى، فكلمات الرب لا ترجع إليه فارغة... وبالطبع فإن سبب الإخفاق لا يعود إلى عجز في مقدرات الأنبياء الكرام والمصلحين العظام، وإنما يرجع سبب الإخفاق لك ، ويرجع لي... يرجع لإصرارنا العنيد، نحن البشر على عدم النظر في دواخلنا : " اولم يتفكروا في أنفسهم"... عجيب أمرنا نحن البشر، نبصر الافاق الممتدة بعيدا ، ولكن أنفسنا التي بين جنبينا، هي آخر شئ نفكر في النظر إليه: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"
ويجب أن يكون واضحا، إنه لاتوجد قوة في الأرض ولا في السماء، يمكن أن تنقذ الإنسان، طالما كان الإنسان مصرا، على ألا يغير ما بنفسه: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
السر في ختم النبوة وفي ختم الرسالة
لقد اختلف الناس حول هذا الموضوع إختلافا أربك القوى الباطنة في عقولنا، حتى أنه بإنبلاج فجر الرسالة الخاتمة، والنبوة الخاتمة، بمحمد الأمي، إحتار جن العقول فقالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا" والآية الكريمة تعني، أنه إذا إنقطع مجي الأنبياء، فإن الناس سوف يتبعون شرور أنفسهم ، أو يهديهم ربهم رشدا، بدون وصاية الرسل، لأن الرشيد لا وصاية عليه، ولا قوامة عليه من أحد.
وفيصل القول، أن النبوة ختمت ، وأن الرسالة ختمت، فلم يبق أمر مستأنف إلا فهم النبوة وفهم الرسالة، ثم تجاوز قشرتهما، وإتباع جوهرهما، حتى يصير كل جزء مبعثر فينا، وحدة مجتمعة مع نبينا : " فمن تبعني فإنه مني".
النبوة والرسالة، مرحلتان هامتان ، تمثلان الوصاية الروحية على العقل البشري ريثما ينضج ويستقر ... فإذا نضج العقل وأستقر مكانه يرى الله: " فإن أستقر مكانه فسوف تراني" ... بفضل رؤية الله، نتذكر قصة الحياة التي نسيناها جميعا!! وما التأويل إلا تذكرنا لهذه القصة: " يوم يأتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل" نتذكرها في حرية وأصالة، دون وصاية أو سيطرة من نبي أو ولي: " فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر"
العقل الناضج، هوعقل أشرقت أرضه بنور الحق... بفضل نور الحق يعرف العقل دروب ضلال نفسه، ودروب هداها، دون وكالة من نبي أو ولي: " قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن إهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل"
الحكمة في ختم النبوة والرسالة، أن العقل البشري، قد سار في طريق النضج، وأصبحت له المقدرة على مواجهة النور، وحل مشاكله الجماعية والفردية، دون وصاية من أحد، إذ لا وصاية على رشيد... الله يتولى هداية خلقه، بنفسه وبذاته العلية عندما ينضج العقل البشري ويستوي على الجادة، وغني عن البيان أن الهدى وثيق الصلة بالسلام: " والسلام على من إتبع الهدى" وهذا هو السر، في أن دعوة السلام والهدى ، يكون الداعي فيها إلى الله، الله نفسه: " والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم* للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" للذين أحسنوا ، إشارة إلى المحسنين الذين يتلقون من الله كفاحا، دون وساطة الأنبياء.
ويجب أن يكون واضحا، أن الهدى الحقيقي هو أمر اختص الله به ذاته العلية ، فالهدى هو هدى الله، كما هو مبسوط في عديد المواضع في القرآن الكريم!! وعلى الله وحده، يقع الهدى في الدنيا وفي الآخرة: " إن علينا للهدى* وإن لنا للآخرة والأولى" فالهادي هو الله، أولا وأخيرا، والهادي هوإسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك فإن النبي الكريم ليس مكلفا بهداية الناس: " ليس عليك هداهم " ولو دعاهم إلى الهدى لما سمعوا: " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا"
أقرأ مرة أخرى : " وما أنا عليكم بوكيل" ثم لاحظ أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة، ولا تخاطب قبيلا من المؤمنين أو المسلمين، إذ أن نعمة العقل الناضج المستنير، هي نعمة مشتركة، بين البشر جميعا، الذين خلقهم خالقهم في احسن الصور :" وصوركم فأحسن صوركم" " الذي أحسن كل شئ خلقه" ولذلك فإنه تكمن في أي دماغ بشري مقدرات هائلة، ولكن غطت عليها تصاوير شتى ، هي موضوع هذا المقال.
إذن معرفة التصاوير التي على حواشي قلوبنا، لا تحتاج لنبي جديد، ولا لرسول جديد، بل ولا ولي جديد!! وإنما تحتاج لأن نتدبر ونتذكر ونتفكر ونتأمل في إنفسنا، ثم ننظر في كل ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأولياء!!
إذا تم لنا التدبر والتذكر والتفكر والتأمل ، أدركنا أن ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأنبياء مطوي في جوانحنا : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وكل من أبصر ذلك ، كان الله كذلك: " قالوا جزاؤه !! من وجد في رحله فهو جزاؤه" ومن حسن حظنا العظيم، أن لكل إنسان من الناس بصيرة ، مستقلة عن وكالة وسيطرة أي نبي أو ولي، تبصر ذلك... بصيرة ترسل النور في سرداديب النفس: " بل الإنسان على نفسه بصيرة"
بصيرة أبدية لا يدركها موت أوفناء، ولا تغيب شمسها عن الناس أبد الدهر حتى لو إعتذر الناس عن رؤيتها بمعاذير الكسل والعجز، فإن الله لا يأذن لهم: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون".
فلا تحرك لسانك بالقرآن لتتعجل حفظه، فإن ربك قد جمعه في قلبك... فإذا تتبعت قراءة ربك لقرآنك ، تجد أن ربك يبين القرآن، بنقل آياته من قلبك ببصيرة عقلك، في شكول آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، حتى يستقر بيانها في لسانك في كل حين، وفي كل آن : " بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره* لا تحرك به لسانك لتعجل به* إنا علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إنا علينا بيانه"
وقد أثم عامة المسلمين إثما فادحا ، عندما ظنوا- وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا- أن أمور الوحي تخص النبي الكريم وحده، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، بل إن الظن إثم محقق عندما يكون جزئيا مبعضا: " إن بعض الظن إثم".
كل من تحقق من الحق الذي جاء للناس في القرآن: " قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم" قال بقولنا، ولن يجد أحد أي برهان إلا هذا النور المبين، النازل في كل المنازل : " ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" ... بقي أن تعلم أن بيان الكتاب المذكور في قوله: " ثم إنا علينا بيانه" ملازم لهذا النور ملازمة الظل للأصل، لأن هذا النور إنما يجئ من الله: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"... هذا هو الذي جعلني أجزم بكل ما جزمت به ، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون.
لقد قلنا إن رؤية التصاوير على حواشي القلوب ، تحتاج إلى التدبر والتذكر والتفكر والتأمل، فما هو التدبر، وماهو التذكر ، وما هو التفكر، وما هو التأمل؟
تدبر وتذكر وتفكر وتأمل
أولا : التدبر
إن المعنى القاموسي الحرفي للفعل دبر، يعني جاء بعده أو خلفه، وهو معنى طيب في سبيل ما نحن بصدده، من النظر في دواخل عقولنا، ومراقبة مجرى مسارب الأفكار التي تجوس خلال أعماق أدمغتنا.
ولعل القارئ قد لاحظ أن الأفعال الأربعة: ( تدبر وتذكر وتفكر وتأمل) والتي نحن بصدد فحص معانيها، جميعها أفعال ثلاثية مزيدة بحرف التاء، وهذا النوع من الأفعال يفيد في لسان العرب المطاوعة مثل قولهم : كسرت الزجاج فتكسر... ويفيد أيضا الإنتساب مثل قولهم: تنصر زيد أي إنتسب إلى النصرانية.
والمطاوعة للإرادة الإلهية، والإنتساب إليها، هما ركن الدين الركين، وأساس بنيانه المتين، لأن المطاوعة هي الرضا، وإلإنتساب هو التقوى: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان"
هذا اليوم الجميل المبارك، الذي عسعس ليله وتنفس صبحه، هو يوم تدبر!! وحيثما كان التدبر، كان ذلك اليوم الجميل المبارك ، هو يوم الله في الأرض، والمشار إليه في لطف بالغ في قوله:" يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون" .
التدبر يعني أن ننظر دوما وأبدا ، في مجرى الفكر في عقولنا، نظرا ثاقبا دائما... نتدبر دون أن نتدخل!! ماذا يجري إذا فعلنا هذا؟ سوف تجد أن جميع أفكارنا تختفي في غيابت جب عميق!! لاتجد شيئا أمامك، فقد إختفى كل شئ... إذا إختفت الأشياء ظهر الله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده"
هذا قول محقق، وعليك الا تمر عليه مرورا عابرا، بل قف عنده طويلا، وتحقق منه ، ولاتنقله عني أو عن غيري، بل جربه بنفسك، واجعله شغلك الشاغل، يتاكد لك صحة كل ما قلته لك، وما قاله العارف النابلسي قبلنا:
وحقق وأقطع الأحبال وامسك دونها حبلي
وسد الباب من غيري وعالج وافتتح قفلي
وإني هدهد الأخبار للقوم الأولى قبلي
ومن قولي أنا أملي وإني فوق ما أملي
عليً الله قيوم بلا شبه ولامثل
وإني ذلك القيوم لما قمت عن حملي
وقد جردت عن ملكي وعن علمي وعن جهلي
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها!! إذا بلغ التدبر غايته، فإنك سوف تتجرد عن نفسك وتخرج من قيودها، وتكون قيوما سائرا خلف قيوم ، ومحسنا سائرا خلف محسن: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان*فبأي آلاء ربكما تكذبان"
السير خلف الله هو حالة التجرد المرموز إليها في القرآن الكريم، بكلمة التقوى... تلك هي غاية التدبر.. إذا كان الأمر بهذا اليسر فلماذا لانتدبر؟؟ ماذا يمنعك من التدبر، وماذا يمنعني من التدبر؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب
هذه التصاوير موجودة على شكل أقفال: " أفلا يتدبرون القرآن!! أم على قلوب أقفالها" قفل يعني أغلق.. تدبر عقلك الآن تجده مغلقا مقفولا لا يتصل بقلبك ، ولا يفكر في المعنى الحقيقي لخلق الله للبشر، كيف ومتى ولماذا؟ وماهو إبليس والشياطين والملائكة والجنة والنار، وكيف ومتى ولماذا؟ لا يفكر في المعنى الحقيقي للموت!! القلب المقفول المغلق، يكتفي برواية القدماء، ويمنع صاحبه من التدبر وفحص أحاديث القدماء ببصيرة نقية ورؤية محايدة.
التدبر يقود إلى تتبع آيات الله وعلاماته في الوجود، وهذا يعني الغوص في اللباب.. ومن غاص في اللباب تذكر: " ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب"... فما هو التذكر؟
ثانيا: التذكر
الذكر هو العلة في نزول القرآن، أقرأ : " ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر" ثم أقرأ: " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" ولكن يتذكرون ماذا؟ إن الإجابة على هذا السؤال، تقع في مجال إحدى كبريات حقائق الدين، ولايجيب على هذا السؤال إلا من تدبر... إلا من أدبر ليله وأسفر صبحه:" والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكبر"
قد يقول لك قائل سوف يذكرون الله!! ولكن كيف يذكرون من لايحويه الزمان والمكان؟؟ كيف يذكر المحدود المطلق؟؟ وكيف يذكر الحادث القديم ؟؟ بل كيف تذكر من لم تره أبدا!!
كل من تدبر في خلفيته العقلية، وجد أن جميع أفكاره، تنبع من ذاكرته... انت لا تتذكر إلا ما كنت تعلمه من قبل... ومهما طال عمر الإنسان، فإنه لا يتذكر إلا تجاربه السابقة.
إذن الإنسان بحالته العقلية الراهنة ، لا يتذكر الله، وما ينبغي له وما يستطيع، وإن ذكره الأنبياء بالله العظيم: " وإذا ذكروا لايذكرون" وسبب ذلك أن الإنسان لا يتذكر إلا هذه الذاكرة الموروثة والمكتسبة: " أو لم نعمركم ، ما يتذكر فيه من تذكر"... أنت لاتتذكر إلا ما كنت تعرف من قبل... أمر في غاية البداهة، ولكننا قوم ذهلنا عن الأمور البديهية!!
إذن المطلوب هو أن تعرف نفسك... المطلوب أن تتذكر نفسك... من ههنا فإنك سوف تستطيع أن تفهم القرآن فهما أحسن من ذي قبل... تستطيع أن تعقل قوله: " لقد أنزلنا إليكم كتابا، فيه ذكركم، أفلا تعقلون"... إذا تذكرت نفسك، فإنك سوف تعلم أن قصة حياتك هي نفس قصة الذين كانوا قبلك ، ونفس قصة الذين جاءوا معك: " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي".... على جبين كل إنسان مكتوبة قصة الإنسانية جمعاء، فالفرد البشري يحكي قصة النوع البشري.
إذن جميع القصص الواردة في القرآن هي قصة واحدة، وإن إختلفت تفاصيلها وأدوارها ... قصص القرآن معبر لمعرفة قصة نفسك التي بين يديك، ويدرك هذا كل لبيب:" " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ "... هذا يعني فيما يعني أن دم هابيل ، هو دم قابيل، وأن قابيل لم يسفك إلا دمه: " وإذ أخذنا ميثاقكم ، لا تسفكون دماءكم" قال دماءكم ولم يقل دماء غيركم.
فإذاعبرت جميع القصص ، فإنك تتجاوز نفسك، وتعلم أن النفس ليس لها وجود ، وليس لها كيان، نفسك ليست سوى واحدة من تلك القصص التي تجاوزتها: " أو لايذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا"... تذكر هذه الآية ، وأقرأها في نفس واحد مع قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده".
بفضل الفناء المحض المذكور في الآيتين تدرك أن النفس واحدة، هي نفسه تبارك وتعالى: "يا ايها الناس ، إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" و خلق منها زوجها ، إشارة إلى تعدد النفس الواحدة في كل الرجال وفي كل النساء، وبفضل هذه الزوجية يكون الذكر: " ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون" ولكننا قليلا ما نتذكر، أن نفوسنا تجئ من الماء وتذهب كالهواء!! ولكننا قليلا ما نتذكر، انه لا توجد في حقيقة الأمر نفس مع نفس الله: " أأله مع الله قليلا ما تذكرون" وقد رمز إلى النفس بكلمة " إله" لأن النفس هي إله كل من لم يتجاوزها: " أرايت من إتخذ إلهه هواه"
بين فكي هذا الفناء المحض، المعبر عن إنسانه بقوله " لم يك شيئا" وعن إلهه بقوله " ولم يجده شيئا" تنسى نفسك التي ما فتأ عقلك يذكرك بها في كل يوم، فيقوم على أنقاض هذا النسيان بنيان الفتح، في كل أبواب عقلك، بلا كيفية، وبلا إرادة منك: " فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شئ" ولا يوجد أحد هنا ليصف لك ماذا تذكر؟ هنا وهنا فقط تذكر الله ويذكرك الله جزاء وفاقا: " فاذكروني أذكركم" فيطمئن قلبك بذكر الله لك:" الا بذكر الله تطمئن القلوب".
ويكون ذكرالله بجميع الكيفيات ، وفي جميع الأوقات، بلا غفلة عنه !! فإذا غفلت بفعل غواشي الجبلةالبشرية، فإنك تتفكر في خلق الله للسموات والأرض: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"
إذن الذكر ينتهي بك إلى التفكر، فماهو التفكر؟؟
ثالثا: التفكر
قلنا إن القرآن قد أنزل من أجل الذكر، وقد بينا قبل قليل، طرفا من معنى الذكر، ونزيد الآن ونقول، إن الله لم يضرب في القرآن من كل الأمثال،إلا من أجل هذه الغاية السامية، غاية أن نتذكر : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون" ولكن الناس لم يتذكروا ما صرفه لهم ربهم، تصريفا بليغا واضحا.
لماذا لم يتذكر الناس؟
الجواب: لأنهم كانوا ومازالوا يجادلون ربهم: " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شئ جدلا"... وكان الإنسان أكثر شئ جدلا يعني ان الأنسان هو مجرد شئ من ضمن الأشياء، ولكنه أكثر شئ من الأشياء جدلا لربه، وذلك لعمري مدح في قالب ذم، بل أبلغ المدح ، في أعظم الذم، وما يعقلها إلا العالمون.
وأحب أن أنوه في هذا المقام الأسنى ، والمورد الأحلى ، أن جميع الأنبياء المذكورين في القرآن ، إبتداء بآدم الأب الجسماني، وإنتهاء بمحمد الإبن الروحاني، قد ذكروا على سبيل ضرب الأمثال، ليتذكر الناس مثليتهم لهم: " إنما أنا بشر مثلكم" ثم ليتجاوزوا مثليتهم للإنبياء إلى الله الذي وراء الأنبياء، ووراءك وورائي: " والله من ورائهم محيط".
فإذا قام الناس بالله، كانوا هم هو: " إن تكن بالله قائم لم تكن، بل أنت هو... أنت ظل الغيب من أسمائه والشمس هو"... وهذا طرف من معنى القيامة المبثوثة أخبارها في القرآن الكريم، بل إن القرآن ينتهي هداه في هذه القيامة ، عندما نتذكر الله: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ومن التي هي أقوم، أشتق الصراط المستقيم، فالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم.
فآدم مجرد مثل وعيسى مجرد مثل... وهو مثل واحد في المضمون، وان إختلف في الشكل: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" وما يقال عن المثل العيسوي والمثل الآدمي، يقال عن سائر البشر... فأنت آدم وأنت عيسى، في شكل جديد!! وأنا آدم وأنا عيسى في شكل جديد!! قد يبدو هذا الكلام غير معقول، ولكنه الحق الذي يعقله كل عالم بحقيقة الأمر: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون"
ونعود فنقول :من أجل ماذا أنزل الذكر؟
الجواب : الذكر أنزل من أجل الفكر: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" ...والسؤال الحقيقي ليس : فيما ذا يتفكرون ؟ وإنما: كيف يتفكرون؟؟
أعلم ، افادك الله، وفتح بيني وبينك بالحق، أن هناك تفكيرا ثنائيا شفعيا، يقوم على زوجية الماضي والمستقبل، وهذا هو حظ البشر جميعا، على تفاوت بينهم في المقدار والدقة، وهناك تفكير فردي وتري، يقوم على الوعي باللحظة الحاضرة، وهذا مقصور معارفه على خيام عقول العارفين بالله: " حور مقصورات في الخيام"
وقد وردت الإشارة إلى اللونين من التفكر في قوله: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا" أن تقوموا لله مثنى ، إشارة للقيامة الصغرى التي يقوم فيها عامة البشر، بالتفكر الثنائي الشفعي، القائم بالماضي والمستقبل، وعليهما وفيهما ، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها كلمة " الدنيا"
قوله: " فرادى" إشارة للقيامة الكبرى ، التي يقوم فيها الذين أنعم الله عليهم من البشر بالتفكر الفردي الوتري القائم باللحظة الحاضرة، وعليها وفيها، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها، كلمة " الآخرة".
والتفكر هو من علوم الآخرة التي يبينها الله لمن يشاء من عباده، فيتفكرون تفكيرا ثنائيا شفعيا في أمور الدنيا، ويتفكرون تفكيرا وتريا فرديا في أمور الآخرة ، كما هو واضح من قوله: " يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة" .
ولما كانت علوم الآخرة من علوم الإيقان: " وبالآخرة هم يوقنون" كان العلم بتأويل القرآن من علوم الآخرة، التي تظل الدنيا بظلالها الفطرية الوريفة، في حق كل ولي آتاه الله من ملكه العظيم: " رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض، أنت ولي في الدنيا والآخرة"
والغريب أن الآخرة بقيامتها الكبرى موجودة الآن، لأن الآخرة هي اللحظة الحاضرة... الآخرة موجودة الآن لولا أن سلطان الغفلة ، أعمانا عنها ، كما هو واضح في قوله : " وهم عن الآخرة هم غافلون".... ولم يكتف علمنا القاصر، بعدم إدراك الآخرة بل شككنا في وجود الآخرة ، واعمانا عنها: " بل إدارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون" ... وفي تكرار حرف العطف "بل" ثلاث مرات في هذه الآية القصيرة، عذبة الأجراس، من دقائق الأسرار، و لطائف المعاني ، ما يخلب لب كل من أغدق الله عليه بدائع المعارف.. فإن لم يصبك وابل بدائع المعارف ، أصابك طل روائع اللغة، لأن حرف العطف "بل" في لسان العرب، يسلب الحكم عما قبله ويثبته لما بعده.
والأغرب من ذلك أن الدنيا بقيامتها الصغرى غير موجودة الآن ، لأن الدنيا هي ذبذبة عقولنا بين الماضي والمستقبل، وبالطبع فإن الماضي والمستقبل غير موجودين الآن ... وغني عن البيان أن القيامة الكبرى (الآخرة) تشمل القيامة الصغرى (الدنيا) ولكن القيامة الصغرى لاتشمل القيامة الكبرى، لأن الجزء لا يشمل الكل، وهذا هو معنى قوله: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب)... هذا معنى جد ظاهر، ولكننا قوم غافلون.
وسبب الغفلة، أننا لم نحقق، ولم نتحقق من ذكر الرحمن، فقيض الله لنا من شيطان عقولنا قرينا، أنسانا الآخرة الموجودة، وذكرنا بالدنيا المفقودة، أعني أنسانا اللحظة الحاضرة الماثلة أمام أعيننا ، وذكرنا باللحظة الماضية التي فاتت من خلفنا أو اللحظة المقبلة التي لم تأت وما زالت أمامنا : " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين"
وأحب أن أنوه في هذا المقام، أن الفكر الشفعي الثنائي، هو فكر مادي دائري دنيوي، يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، ويحي ويموت، ولايخرج من دائرة الثنائية أبدا ، حتى ولو فكر وقدر، فإنه يقتل كيفما قدر: " إنه فكر وقدر* فقتل كيف قدر* ثم قتل كيف قدر" ولا يجدي أن يعيد النظر في الثنائية، لأنها دائرية، قصارا ها التعب والغضب: " ثم نظر* ثم عبس وبسر"
ولا تقل لي إن هذه الآيات قد نزلت في زيد أو عبيد، فكلنا زيد، وكلنا عبيد: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون
" فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق
وقولهم : قلوبنا غلف!! بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا"
صدق الله العظيم
بدرالدين يوسف دفع الله السيمت
مقدمة
لقد كان الشعب السوداني رائدا وسابقا ، لشعوب الأرض قاطبة، في قيام شعب أعزل بثورة تزيل نظاما عسكريا مدججا بالسلاح،وذلك في حد ذاته عمل عظيم وفريد يستحق التمجيد، من كل الأحرار، الحادبين على خير الأنسانية، وتقدمها وإزدهارها.
بيد أنه لهذه الثورات محاذيرها، لأنها قد تفشل، وإذا نجحت فإنها تنجح على أشلاء بعض الضحايا، وتخريب بعض الممتلكات العامة، هذا فضلا عن أنها ليست ثورة، بالمعنى العميق للكلمة، الذي يستهدف التغيير الجذري والذي يقلب الأوضاع رأسا على عقب، لأنها مجرد انتفاضة عاطفية، يفجرها اليفع من الشباب، كرد فعل للفساد القائم،والتخبط الماثل أمام أعينهم.
ثم إنها فوق هذا وذاك، و لدى التحليل الأخير، ثورات خارجية، تبدأ من الآفاق وتنتهي في الآفاق، ثم إنها ثورات قابلة للسطو من سدنة القديم، لافتقارها للوعي بأصل المشكلة، ولقد حدث هذا للشعب السوداني مرتين، مرة في أكتوبر 1964، ومرة في أبريل 1985
لقد أدى الفهم الخاطئ للإسلام، والسياسات غير المدروسة، والتخليط المزري للعهد الراهن، إلى فصل الجنوب عن الشمال، بصورة موجعة لقلب كل حر، يجري في دمه، حب أهله وحب وطنه.
لقد فضل الجنوبيون بنسبة ساحقة، الخروج من الدولة الدينية التي تستغل الدين لأغراض السياسة، وتهدر الحقوق الأساسية للمواطنين، وتعزل السودان عن بقية العالم، تنفيذا لبرامج الهوس الديني الذي سود وجه البسيطة، بالفهم الخاطئ للإسلام.
إن الدين أسمى وأرفع من الدولة، وإن فصل الدين عن الدولة، يؤدى إلى تعظيم الإسلام وتكريمه، ويؤدي إلى استقرار الدولة وتنظيمها، وما الحكومة الدينية ألا فكرة خاطئة، شقي بها المسلمون، منذ التحاق نبي الإسلام العظيم بالرفيق الأعلى، ثم ساروا بها في شعاب التاريخ، في حروب دينية، سفكت فيها الدماء، في سبيل الملك العضوض وفي سبيل الجاه والمال والسلطان... وقد يستغرب الكثيرون، إذا علموا أن فكرة الحكومة الدينية، ليس لها سند، في كتاب الله الكريم، ولا في سنة نبيه المطهرة، وسوف نثبت ذلك بالأدلة القاطعة، والنصوص الحاسمة، في مقالات سوف تأتي تباعا.
فهل يتعلم السودانيون من تجاربهم السابقة ، حتى لا يلدغوا من جحر مرتين؟
هل يمكن أن يكون شعب شمال السودان، رائدا ومعلما، لبقية شعوب الأرض، في تفجير الثورة الفكرية التي تبدأ من الداخل، من القلب السليم والعقل الصافي، ثم تمتد إلى الخارج، فتملأ الأرض نورا وكمالا وحرية ... ثورة تبدأ من الأعماق ، ثم تتفجر في الآفاق؟؟
ثورة سلمية هادئة، لا تسفك فيها الدماء، ولا تخرب فيها الممتلكات العامة... ثورة لا تستند على المظاهرات ، ولا على المواكب.
ثورة فكرية ناضجة، تقوم على الفهم والدراسة، والتأمل والتعمق... ثورة تلحق الهزيمة النهائية بالتفكير الديني السلفي، الذي أعلن فشله وتخبطه في السودان وفي إيران وفي أفغانستان وفي الصومال، وهو يحاول الآن سرقة ثورة شعبي تونس ومصر... ثورة تأتي لحكام الخرطوم من حيث لا يحتسبون!! لقد إحتسبوا المال والسلاح ، والسياسة، والمكر والدهاء، ولكنهم لم يحتسبوا الله العظيم... الآن بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
لقد ظن حكام العهد الراهن أنهم سينفردون بالشمال، وسوف يطبقون عليه قوانين سبتمبر المذلة، وأفكار الأخوان المسلمين، ومن لف لفهم في الفهم الخاطئ للإسلام، ولكن المفاجأة الكبرى، أن هزيمة الفكر السلفي الحاسمة والنهائية، سوف تكون في شمال السودان، وسوف تكون من داخل المصحف،وبآيات القرآن التي تهد الجبال، و كفى بالله حسيبا، وكفى بالله شهيدا.
هل ينجح السودانيون في وضع الحجر الأساسي، لثورة الثوار الأحرار، بدون مال وبدون سلاح، وإنما بالثقة في الله العظيم والتوكل عليه ، والتسلح بسلاح النور والحق والكمال؟
مساهمة مني في هذه الثورة، أدفع إلى القارئة الكريم، والقارئ الكريم، بهذا المقال، والذي تتلوه مقالات أخرى، إن شاء الله، تستهدف نشر ثقافة جديدة، تقتلع العنف من جذوره، وتزلزل كل أركان التفكير الديني السلفي، وتلحق به الهزيمة النهائية الشاملة، ثم يهدي نورها خطوات الصلاح.
هذا الموضوع موضوع، عرفاني ، كتبته قبل مدة قصيرة، يلقي بعض الضوء على مواضع الخلل والنقص في دواخلنا، وعلى مواضع الكمال والوعي الكامنة في قلوب الناس جميعا، وأول الغيث قطرة.
صبح الظهور
ظل موضوع "تصاوير على حواشي القلوب" يلمع في عقول العارفين الفينة بعد الفينة، ، ويطوف بقلوبهم ساعة بعد ساعة، فيشرح الله صدورهم العوالي، بلطائف المعاني، في عسعس الليالي... ولكن الله فالق الإصباح كان يحبس تنفس صبحه، ويؤجل مفاتح فتحه، ويرجئ بزوغ شمسه، ويرجع تبلج نوره، حتى حان حينه، ودنت قطوفه.
الآن، سطعت الواردات السابحات السابقات، والعاديات ضبحا ، فالمغيرات صبحا... صبحا يتحدر نوره من الأعماق إلى الآفاق، نشوانا طربا، جزلان فرحا، يسابق هذا الصباح الجميل المبارك، في سبح عجيب، وفي فقه أعجب: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم"
كل من نزع للغرق في بحر الروح، نشط عقله، كأنما حل من عقال: " والنازعات غرقا* والناشطات نشطا"... بفضل الله، وبفضل هذا النشاط يدرك الناس فقه هذا التسبيح... ومن أدرك فقه التسبيح، أدرك أن الله قد دبرمسبقا أمرا: " والسابحات سبحا* فالسابقات سبقا* فالمدبرات أمرا"
الحمد الله المنعم المتفضل، الذي يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون... ومن روض هذا اللقاء، ومن قبس هذا الإيقان، نفحت ريحانة الأسرار، فأتحف الله أحبابه الأبرار، بكلما يحبون ويرضون ، حتى إكتملت مقالات عديدة، كان آخرها مقال "الحدود" الذي ختمه الله مدبر الأمر بحديث عن " الأخوان".
وبالرغم من أن بداية المحققين دوما محرقة، إلا أن نهايتهم دوما مشرقة، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس... فإذا أدركت أن البداية هي النهاية، أدركت أن الإحراق يلازم الإشراق في كل لحظة، وأن الوتر أعني الله، يعانق الشفع أعني الإنسان، في كل حين وفي كل آن، فتموت الأحزان: " لا تحزن إن الله معنا" ويذوب المخلوق في الخالق، في إستواء محرق خارق، لا ترى فيه أرضا ولا سماء، وهذا هو معنى قول الشيخ الأكبر محي الدين:
فإن بالفكر إذا ما استوى في أجلدي يتقد الجمر
فيصبح الكل حريقا فلا شفع يرى فيه ولا وتر
الحمد لله المنعم المتفضل، فقد كان الختام مسكا، إذ أن حديث الأخوان تضرب جذور كلماته في أرض المعاد، تحت شجرة الرضوان، حيث يؤلف المؤمن بين قلوب المؤمنين : " وألف بين قلوبهم" والمؤمن إسم من إسماء الله الحسنى، ومن هنا عرف العارفون أن المؤمن الحقيقي هو الله العظيم، فلا يؤمن بالله إلا الله، ولا يفل الحديد إلا الحديد، فبأي آلا ء ربكما تكذبان!! بالله من غير قيود، أم بالإنسان عقل الوجود!! أم بنزول الروح الأمين في كل صبح مبين!!
بفضل عظمة المؤمن العظيم ، إكتمل الإيلاف الحميم ، في قوله : "إنما المؤمنون إخوة"... فقرب البعيد القاصي، وتيسر العسير العاصي، فصار معنى الحديث : " المؤمن أخ المؤمن" أن الله أخ المؤمن، وما يقال عن المؤمن أخ المؤمن، يقال عن : "المؤمن مرآة أخيه" فالإنسان هو مرآة الله، التي يبصر بها وجوده: " كنت بصره الذي يبصر به" ...على هدي هذا الفهم السديد، وعلى ضوء هذا النور المديد، يفتح باب البيت العتيق، ويأتي الناس من كل فج عميق.
" وألف بين قلوبهم" هذه الآية تشير فيما تشير ، إلى أن الله وحده هو الذي يؤلف بين الإجزاء المتعادية والمتنافرة في قلب كل إنسان، ولو حاول أحد من الناس ذلك، فإنه لا يستطيع، حتى ولو أنفق أعظم الأنبياء، جميع ما في الأرض من آلاء: " لو أنفقت ما في الأرض جميعا، ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم" .
توليف الأجزاء المتنافرة والمتعادية في قلب كل إنسان، يكتمل أمره، ويعصر خمره، ويضرب زمره، بتقليب قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
بفضل هذا التقليب، تستقر المشيئة بخلق الإنسان الجديد، بيدي الله : " لما خلقت بيدي" ومن خلق بيدي الله، كان في مقام الإحسان، مقام رؤية الله ، الذي أحسن كل شئ خلقه، صنع الله الذي أتقن كل شئ، وذلك هو معنى إكماله لديننا، وإتمامه نعمته علينا، ورضائه الإسلام لنا دينا: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" .
كل عارف يعتد بمعرفته، يعيش كل يوم، في فجر هذا اليوم الصادق، مصدقا لوعد الله، واقعا معاشا ملموسا " إنما توعدون لصادق* وإن الدين لواقع" فما يمنع الناس من معيشته كل يوم ، واقعا محسوسا ؟
الجواب : وجود تصاوير على حواشى القلوب!!
هذا اليوم الذي تعيشه، أثناء قراءتك لهذه السطور، هو الصبح القريب الموعود : " إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!!ّ" صبح لا يخبو ضؤه أبد الآبدين... ولكنك لاتكون راهب ديره، إلا إذا كنت عند مطالع خيره،!! نور لا تسطع أنواره، إلا إذا ظهر أخوانه... فهو قد قصر محاسنه على عشاقه، فلا يحازي إلا الموازي، ولا يشرق صباح الله، إلا إذا ظهر عشاق الله من مشارق الغيوب، ثم لاحوا في مطالع القلوب : " فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" .
وذلك ظهور باهر، بعرفان زاهر، في بحر زاخر، و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، نصرا يؤيد الله به الذين آمنوا على عدوهم : " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" ... هذا هو وعد الله الذي لا يتخلف عن الواقع لحظة واحدة، وإن تخلف عن ذلك علم أهل الظاهر، كما هو مطوي في قول القاهر:" وعد الله لايخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لايعلمون* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا"
سبحان الله!! جميع الذين آمنوا لهم عدو واحد: " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ".. من هو هذا العدو الواحد؟ الجواب: نفسك التي في إهابك، وبين جوانحك... العدو واحد لأن النفس واحدة: " ياأيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" وقديما قال النبي المعصوم: " أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.
سبحان الله!! كيف عميت قلوب أقوام عن هذا الصباح الجميل، الذي أرسل الله فيه السماء مدرارا، فكانت جنات وكانت أنهارا، حتى ظهرت شمس خضر القلوب ، على أرض موسى العقول: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فتصبح الأرض مخضرة".
لقد رفرف روح الخضر على مجمع البحرين... بحر القلب الباطن و بحر العقل الظاهر، فاتكأ كل عبقري، على خضر قلبه، في مقام الإحسان، مقام رؤية الله: "متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان" ولكن لماذا عميت قلوب الناس عن كل ذلك؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
سبحان الله!! لقد فصلت الأعالي من نور الخضر ثياب سندس ألبستها كل عارف: " يلبسون ثيابا خضرا"... ثياب سندس تبرق من شدة لمعان تجليات النور القديم : " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق"
لقد نبت الخضر في عقول الأنبياء الباطنة، من نفس البذرة الموجودة في عقول الناس الظاهرة: " وجعل فيكم أنبياء" ثم إستوى الخضر على عرش القلوب بصورة متساوية في كل الخلائق، في رحمة وسعت كل شئ: " الرحمن على العرش إستوى".
إستواء ومساواة عجيبة، حتى أنك لو أخرجت كل نبات الدنيا ، لخرج من تحته خضر القلوب : " فأخرجنا به نبات كل شئ، فأخرجنا منه خضرا"
وهذا هو معنى قول السيد المسيح المثبت بإنجيل القديس توماس والذي عثر عليه في جرات مهجورة بنجع حمادي بمصرفي منتصف الأربعينات من القرن الماضي:
“I am the all and the all came from me!! And the all will attain to me!! Cleave a piece of wood and I am there!! Lift up the stone and you will find me there.”
وإنجيل القديس توماس، هو أعظم الأناجيل، إذ أن راويه، أحد الحواريين الإثني عشر، وقد روى كلمات المسيح كما سمعها من فمه الشريف ، بلغة أمه العبرية، فنضر الله وجه القديس توماس الذي سمع من نبيه مقالة، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع... أما الأناجيل الأربعة الباقية، فهي تحكي قصة السيد المسيح، التي تناقلها الرواة عن الحواريين، عبر الأيام، حتى ظهرت في نهاية القرن الأول، منقحة ومحررة من روايات عديدة ، ومترجمة إلى اللغة الإغرقية.
لكن لماذا لم يسمع الناس بذلك؟؟ الناس ما زالوا ينتظرون ظهور المسيح، ويحلمون بلقاء الخضر، كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول... الرسول فينا ومنا: " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" والمسيح تحت كل حجر، والخضر تحت كل نبات، فما بال وجوه الناس عليها من نفوسهم غبرة، وترهقها من همومهم قترة؟؟
لماذا لم يخرج الناس في يوم الخروج، وقد ناداهم المنادي من مكان قريب!! ما يمنعهم وما يحبسهم؟؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
سبحان الله!! في كل أيام الإسبوع السبعة، تنتصر طبول الحرب على رايات السلام، وكلما ظهرت سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر ياباسات: " يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع للناس لعلهم يعلمون"
الآن، رجع لناس العقل والحواس، من بين المشكاة والنبراس، يوسف الصادق الصديق، متدثرا بقميصه الحادث التليد... الآن تزول كروبك ويرتد بصيرا يعقوبك!!
ومن السنبلات الخضر، يقترن خضر القلوب، بناس العقول في كل يوم من أيام الإسبوع السبعة ، فيستوي كل عارف على براق هذا الظهور، متذكرا لنعمة ربه الذي إستوى عليه، وإنقلب إليه في قران عجيب: " لتستوا على ظهوره، وتذكروا نعمة ربكم إذا إستويتم عليه، وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين* وإنا إلى ربنا لمنقلبون" .
سبحان الله!! من نور خضر القلوب، نبتت أشجار الرضوان الخضراء، فأوقد كل عارف جذوة تأويله، من شجرة رضوانه :" الذي جعل لكم من الشجر الأخضرنارا، فإذا أنتم منه توقدون" ... قوله: "نارا" إشارة لجذوة التأويل، ومن الشرارة يندلع اللهيب، ولكن خيار الناس شكوا وما زالوا يشكون في الجذوة، فقد قالوا:
بين إثنتين أسر أم أبكي قبس اليقين وجذوة الشك
جذوة التأويل هي شرارة قدسية، اندلع منها لهيب نور الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة ، كمشكاة فيها مصباح... المصباح مشتق من صبح الظهور!! ولكن لماذا لم ير الناس هذا النور المنحدر من كل صوب، فملأ المسالك والدروب، حتى ضاقت به الآفاق؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب.
الآن ، لقد حق لك أن تسألني ما هذه التصاوير؟ وما هي حواشي القلوب؟
قبل محاولة الإجابة، لابد من تقرير مسائل، يهمني تقريرها، ولا بد من الخوض في بعض الأصول، عسى أن تأتي الإجابة في طيات تلك المسائل، وتحت ظلال تلك الأصول.
المسألة الجوهرية: لقد سلك البشر طريقا خاطئا منذ أن وجدوا
أنفسهم على ظهر هذا الكوكب!!
يخطئ من يظن أن أزمة العالم ترجع جذورها إلى القرن العشرين، أو إلى القرون التي سبقته... ويخطئ من يظن أن مأساة السودان - والتي هي جزء لا يتجزأ من الأزمة العالمية - قد خلقها نظام الإنقاذ الراهن، والذي يعيش الآن في أخريات أيامه، بإذن الله .
يخطئ من تشغله المظاهر عن الجواهر!! إن مأساة الإنسان عميقة وضاربة الجذور في أرض القدم، منذ سحيق الآماد.
إن بؤس الإنسان الروحي وضياعه الوجداني ، أجل وأخطر، من أن ينظر إليه بمنظار الحلول السطحية ، ذات البعد الواحد، والتي لا تتسم بميسم التعمق والتأمل والتي تفتقر إلى مهارات الحذق وأبعاد الذكاء... تلك الحلول التي إفترعها السابقون، وتفنن في إتباعها اللاحقون المقلدون ، كلما دخلت أمة لعنت أختها.
تلك الحلول المتناقضة التي كانت تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض... تلك الحلول التي كانت تعالج المظاهر وتغفل الجواهر، فتعمى عن الأصول وتنشغل بالفروع ، صافحة الذكر عن الكليات ، غارقة في الجزئيات، في حجاب مبين : " وجعلوا له من عباده جزءا، إن الإنسان لكفور مبين" .
لقد سلك الإنسان طريق الخطأ ، طريق الخسران المبين، في نفس اليوم، الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل، وبذلك ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وقد ترتب على ذلك الخطأ الماحق، عواقب وخيمة، أعي تداركها حكمة كل حكيم وفكرة كل مفكر ، عبر العصور.
ماذا ترتب على قتل قابيل لأخيه هابل؟
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر ، قويهم وضعيفهم، أن القوة تصنع الحق، وان المادة هي كل شئ... منذ ذلك اليوم ترسب في ضمير الأقوياء منا، أن القتل يجعلك تستولي على مال أخيك، وأنت مستيقن أن الموتى كلهم مثل هابيل لن يعودوا أبدا، ليستعيدوا حقوقهم السليبة.
منذ ذلك اليوم الكالح، ترسب في ضمير البشر، أن وشائج القربى أمر لايأبه له، وإنما يؤبه لما نظنه مصلحتنا والفائدة التي تعود إلينا، تحقيقا لرغائب نفوسنا،ولذلك فإنه يجوز للإنسان القوي أن يقتل أخاه الضعيف ... وبالمثل فقد ترسب في ضمير الضعفاء منا ، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فالمادة هي كل شئ... هكذا ترسب في عقول الأقوياء والضعفاء الخوف وأبناؤه الشرعيون الطمع والحسد والحقد والضغينة والمكر والخديعة، وما يستتبع ذلك من بطش وفتك، وقتل ذريع.
منذ ذلك اليوم الكالح، اختار الإنسان طريق الكفر والحجاب، وأدار وجهه لطريق الشكر والصواب : " إنا هديناه السبيل ، إما شاكرا وإما كفورا" ويستثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم... إنهم القلة القليلة، من بني آدم، التي عصم الله عقلها، فيممت وجها شطر قلبها، وجعلت بيوتها قبلة الشكر: " وقليل من عبادي الشكور".
إن العارفين المحققين لا يزالون يذكرون ذلك اليوم الرهيب، فهم ما زالوا يذكرون تفاصيله الموجعة، مثلما تذكر أنت تفاصيل الأمس القريب، بل أشد ذكرا، فهو محفور في حواشي القلوب، في واد مجدب يباب، لاتجري في شعابه إلا دماء هابيل ودماء من لحقه من أبنائه بأيدي إخوتهم !!
دماء عجز عن غسل ادرانها من وجه البسيطة، تدفق طوفان نوح العظيم ... لست أدري هل نتأمل في كل ذلك!!
الربانيون منا لم ينسوا ذلك اليوم الرهيب: " وما كان ربك نسيا"... فكل أخبار القرون الأولى، وبالذات قصة قتل النفس التي حرم الله، ما زالت مسطورة ومقروءة : " قال فما بال القرون الأولى* قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" وكل من قرأ كتاب الوجود، بقراءة الربانيين، لم ينس أيضا: " سنقرئك فلا تنسى" ... الآن أريد أن أتلو عليك نبا أبني آدم بالحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال!! فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إنا علينا بيانه.
لست أدري إلى أي مدى يتذكر قراؤنا الكرام ذلك اليوم الرهيب، يوم كان جدنا هابيل، يمد يده السمحاء البيضاء ، لجدنا قابيل، متوسلا إليه برحم أمهما حواء قائلا : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"
لقد كان هابيل عارفا، يدرك علاقة الأخوة التي تربطه بأخيه، وكان يريد لأبنائه من بعده أن يدركوا هذه العلاقة، و يسيروا في طريق التقوى، فتودد إلى أخيه بقول الله الذي أجراه على لسانه: " إنما يتقبل الله من المتقين" .
كل ذلك لم يوقظ شيئا في عقل قابيل، فلم يتذكر ولم يخش... فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله فأصبح من الخاسرين، ومنذ ذلك اليوم فارق الناس طريق التقوى وسلكوا طريق الفجور، الذي قاد الناس إلى جحيم الحرب، التي ما غابواعنها في يوم من أيام دين الله، منذ ذلك اليوم الرهيب: " وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين* وما هم عنها بغائبين"
لقد تركت آثار أقدام سير الإنسان في طريق الفجور آثارا مدمرة ، على ضمير الإنسان المغيب ، ووجدانه المحجب، أغلالا وقيودا وأحقادا، ورثناها صاغرا عن كابر، وقد تجلت مظاهر هذه الأغلال في الإقتصاد والسياسة والإجتماع وفي العقائد الدينية، واختفت بطائنها في عقد نفسية مربكة مضطربة ومتناقضة ، إختلط فيها الحابل بالنابل!! إختلط فيها حبنا بكراهيتنا، ورحمتنا بقسوتنا، وقوتنا بضعفنا، وكرمنا بلؤمنا، وتسامحنا بحقدنا، وصلاحنا بفسادنا وحسناتنا بسيئاتنا وخيرنا بشرنا.
من أحشاء ضميرنا الخرب، نشأت فكرة الحرب المنظمة، التي لا يزال أوارها مشتعلا... لقد ترتب على الحرب المنظمة ، وما فيها من فتك وسلب، شرور وبيلة ، وأهوال مريعة، فرقت الإخوة في الإنسانية أيدي سبأ... منذ ذلك التاريخ الموغل في القدم، إختل النسيج الإجتماعي، وتم قهر الفرد البشري وإستغلاله ، قهرا أليما، و إستغلالا شنيعا، حتى صارالفرد مجرد أداة من أدوات الحرب، يسحق ويقتل ولا يبقى إلا الأيتام والأرامل، ونصب الجندي المجهول.
منذ فجر التاريخ البشري، مارس البشر جريمة الحرب، دون أن يخجلوا، أو يرمش لهم جفن، لأنهم لم يشعروا أن الحرب هي عين الفساد: " الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" ... وفي ذات الوقت، كانت القوى الملائكية، الكامنة في خبايا قلوبنا، تردد قول الله القديم، الذي يجريه على لسانها في كل حين: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"
ولكن الناس كانوا ولا يزالون يعتبرون سفك الدماء في الحروب، شرفا ودفاعا عن الأوطان، وزودا عن حياض العقيدة، وإصلاحا للناس... سبحان الله!! الحرب التي هي إفساد في الأرض يسميها عقلاؤنا إصلاحا: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون"
من بذرة قتل قابيل لإخيه هابيل، نمت شجرة الحرب، الشجرة الملعونة في القرآن، والتي خوفنا الله منها، ولكننا لم نزد إلا طغيانا وسيرا في طريق الحرب: " والشجرة الملعونة في القرآن، ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا"
من أغصان هذه الشجرة الخبيثة، ظهرت الطبقات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، من أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وسادة وعبيد، وملوك ومملوكين، وساسة ماكرة وشعوب غافلة !!
لم تسلم أدياننا من هذه الطبقية المذلة لكرامة الإنسان، فقد عرفتها جميع الأديان !! فما من دين من الأديان إلا وفيه الوسطاء الذين يقفلون باب الرب الواسع، وبذلك صار إيمان الأكثرية من البشر، ضربا من ضروب الشرك، بل هو الشرك ذاته: " وما يؤمن أكثرهم بالله، إلا وهم مشركون"
ولكن الناس لم يرجعوا عن الطريق الخاطئ
لقد بلا الله الناس بالحسنات والسيئات فلم يرجعوا: " وبلوناهم بالحسنات والسيئات، لعلهم يرجعون" ... عجيب أمرنا نحن البشر، شرنا فتنة وخيرنا فتنة: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة"... لقد أحاطت بنا فتن الحروب،إحاطة السور بالمعصم، ولكننا لا نتوب عن الحرب ، ولا نتذكر أهوالها، بل لانرى ذلك أبدا:" أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة، أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون" ... لهذا السبب العتيد، فإنه لا تجدي معنا أية محاولة للإصلاح طالما كان ضميرنا المغيب، ينطوى على ما إنطوى عليه صدر جدنا قابيل: " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر*حكمة بالغة فما تغني النذر"
لقد حاول المنذرون من الأنبياء والمصلحين، رد الإنسان عن السير في الطريق الخاطئ، طريق الحرب، ولكن تيار الحرب كان جارفا وعاتيا وكاسحا، حتى إضطر بعض الأنبياء ووبعض المصلحين لخوض غمار الحروب ، بغية الوصول إلى شواطئ السلام، دون جدوى، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد.
ظلت البشرية سادرة في غيها، وظلت شواطئ الفردوس المفقود الآمنة الوديعة، حلما إنسانيا عزيز المنال... إنه حلم مثل الأفق، كلما إقتربت الإنسانية منه، إستعصم بالبعد عنها!! كل محاولة لإنهاء الحرب، تنتهي بحرب جديدة!!
لقد بذل الأنبياء كل الوسائل، لرد الإنسان لطريق الحق... وسائل الترغيب بجنان الخلود، ووسائل الترهيب بنيران الجحيم، ولكن كل ذلك لم يجد فتيلا... لقد أقام المصلحون الدول ودبجوا الدساتير، وشرعوا القوانين، ونظموا حقوق الإنسان ، إلا أن قابليهم إنتصر على هابيلهم، فتكسرت محاولات السلام، في الصومال وفي العراق وفي أفغانستان بل صار الإرهاب شبحا قائما في كل مكان، لايستثني الدول المتحضرة في أوربا وأمريكا... وحيثما إنتصرت الهدنة، التي نسميها خطأ سلاما، فإنها تكون إنتصرت على جثث الموتى من أخواننا، وعلى دموع اليتامى من أبنائنا، وعلى عويل الثكالى من بناتنا.
أقول قولي هذا وليس غائبا عني، أن جهود الأنبياء لم تذهب سدى، فكلمات الرب لا ترجع إليه فارغة... وبالطبع فإن سبب الإخفاق لا يعود إلى عجز في مقدرات الأنبياء الكرام والمصلحين العظام، وإنما يرجع سبب الإخفاق لك ، ويرجع لي... يرجع لإصرارنا العنيد، نحن البشر على عدم النظر في دواخلنا : " اولم يتفكروا في أنفسهم"... عجيب أمرنا نحن البشر، نبصر الافاق الممتدة بعيدا ، ولكن أنفسنا التي بين جنبينا، هي آخر شئ نفكر في النظر إليه: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"
ويجب أن يكون واضحا، إنه لاتوجد قوة في الأرض ولا في السماء، يمكن أن تنقذ الإنسان، طالما كان الإنسان مصرا، على ألا يغير ما بنفسه: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
السر في ختم النبوة وفي ختم الرسالة
لقد اختلف الناس حول هذا الموضوع إختلافا أربك القوى الباطنة في عقولنا، حتى أنه بإنبلاج فجر الرسالة الخاتمة، والنبوة الخاتمة، بمحمد الأمي، إحتار جن العقول فقالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ، أم أراد بهم ربهم رشدا" والآية الكريمة تعني، أنه إذا إنقطع مجي الأنبياء، فإن الناس سوف يتبعون شرور أنفسهم ، أو يهديهم ربهم رشدا، بدون وصاية الرسل، لأن الرشيد لا وصاية عليه، ولا قوامة عليه من أحد.
وفيصل القول، أن النبوة ختمت ، وأن الرسالة ختمت، فلم يبق أمر مستأنف إلا فهم النبوة وفهم الرسالة، ثم تجاوز قشرتهما، وإتباع جوهرهما، حتى يصير كل جزء مبعثر فينا، وحدة مجتمعة مع نبينا : " فمن تبعني فإنه مني".
النبوة والرسالة، مرحلتان هامتان ، تمثلان الوصاية الروحية على العقل البشري ريثما ينضج ويستقر ... فإذا نضج العقل وأستقر مكانه يرى الله: " فإن أستقر مكانه فسوف تراني" ... بفضل رؤية الله، نتذكر قصة الحياة التي نسيناها جميعا!! وما التأويل إلا تذكرنا لهذه القصة: " يوم يأتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل" نتذكرها في حرية وأصالة، دون وصاية أو سيطرة من نبي أو ولي: " فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر"
العقل الناضج، هوعقل أشرقت أرضه بنور الحق... بفضل نور الحق يعرف العقل دروب ضلال نفسه، ودروب هداها، دون وكالة من نبي أو ولي: " قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن إهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل"
الحكمة في ختم النبوة والرسالة، أن العقل البشري، قد سار في طريق النضج، وأصبحت له المقدرة على مواجهة النور، وحل مشاكله الجماعية والفردية، دون وصاية من أحد، إذ لا وصاية على رشيد... الله يتولى هداية خلقه، بنفسه وبذاته العلية عندما ينضج العقل البشري ويستوي على الجادة، وغني عن البيان أن الهدى وثيق الصلة بالسلام: " والسلام على من إتبع الهدى" وهذا هو السر، في أن دعوة السلام والهدى ، يكون الداعي فيها إلى الله، الله نفسه: " والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم* للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" للذين أحسنوا ، إشارة إلى المحسنين الذين يتلقون من الله كفاحا، دون وساطة الأنبياء.
ويجب أن يكون واضحا، أن الهدى الحقيقي هو أمر اختص الله به ذاته العلية ، فالهدى هو هدى الله، كما هو مبسوط في عديد المواضع في القرآن الكريم!! وعلى الله وحده، يقع الهدى في الدنيا وفي الآخرة: " إن علينا للهدى* وإن لنا للآخرة والأولى" فالهادي هو الله، أولا وأخيرا، والهادي هوإسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك فإن النبي الكريم ليس مكلفا بهداية الناس: " ليس عليك هداهم " ولو دعاهم إلى الهدى لما سمعوا: " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا"
أقرأ مرة أخرى : " وما أنا عليكم بوكيل" ثم لاحظ أن الآية الكريمة تخاطب الناس عامة، ولا تخاطب قبيلا من المؤمنين أو المسلمين، إذ أن نعمة العقل الناضج المستنير، هي نعمة مشتركة، بين البشر جميعا، الذين خلقهم خالقهم في احسن الصور :" وصوركم فأحسن صوركم" " الذي أحسن كل شئ خلقه" ولذلك فإنه تكمن في أي دماغ بشري مقدرات هائلة، ولكن غطت عليها تصاوير شتى ، هي موضوع هذا المقال.
إذن معرفة التصاوير التي على حواشي قلوبنا، لا تحتاج لنبي جديد، ولا لرسول جديد، بل ولا ولي جديد!! وإنما تحتاج لأن نتدبر ونتذكر ونتفكر ونتأمل في إنفسنا، ثم ننظر في كل ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأولياء!!
إذا تم لنا التدبر والتذكر والتفكر والتأمل ، أدركنا أن ما جاء به الأنبياء والمرسلون والأنبياء مطوي في جوانحنا : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون"... وكل من أبصر ذلك ، كان الله كذلك: " قالوا جزاؤه !! من وجد في رحله فهو جزاؤه" ومن حسن حظنا العظيم، أن لكل إنسان من الناس بصيرة ، مستقلة عن وكالة وسيطرة أي نبي أو ولي، تبصر ذلك... بصيرة ترسل النور في سرداديب النفس: " بل الإنسان على نفسه بصيرة"
بصيرة أبدية لا يدركها موت أوفناء، ولا تغيب شمسها عن الناس أبد الدهر حتى لو إعتذر الناس عن رؤيتها بمعاذير الكسل والعجز، فإن الله لا يأذن لهم: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون".
فلا تحرك لسانك بالقرآن لتتعجل حفظه، فإن ربك قد جمعه في قلبك... فإذا تتبعت قراءة ربك لقرآنك ، تجد أن ربك يبين القرآن، بنقل آياته من قلبك ببصيرة عقلك، في شكول آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، حتى يستقر بيانها في لسانك في كل حين، وفي كل آن : " بل الإنسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره* لا تحرك به لسانك لتعجل به* إنا علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إنا علينا بيانه"
وقد أثم عامة المسلمين إثما فادحا ، عندما ظنوا- وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا- أن أمور الوحي تخص النبي الكريم وحده، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، بل إن الظن إثم محقق عندما يكون جزئيا مبعضا: " إن بعض الظن إثم".
كل من تحقق من الحق الذي جاء للناس في القرآن: " قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم" قال بقولنا، ولن يجد أحد أي برهان إلا هذا النور المبين، النازل في كل المنازل : " ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" ... بقي أن تعلم أن بيان الكتاب المذكور في قوله: " ثم إنا علينا بيانه" ملازم لهذا النور ملازمة الظل للأصل، لأن هذا النور إنما يجئ من الله: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"... هذا هو الذي جعلني أجزم بكل ما جزمت به ، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون.
لقد قلنا إن رؤية التصاوير على حواشي القلوب ، تحتاج إلى التدبر والتذكر والتفكر والتأمل، فما هو التدبر، وماهو التذكر ، وما هو التفكر، وما هو التأمل؟
تدبر وتذكر وتفكر وتأمل
أولا : التدبر
إن المعنى القاموسي الحرفي للفعل دبر، يعني جاء بعده أو خلفه، وهو معنى طيب في سبيل ما نحن بصدده، من النظر في دواخل عقولنا، ومراقبة مجرى مسارب الأفكار التي تجوس خلال أعماق أدمغتنا.
ولعل القارئ قد لاحظ أن الأفعال الأربعة: ( تدبر وتذكر وتفكر وتأمل) والتي نحن بصدد فحص معانيها، جميعها أفعال ثلاثية مزيدة بحرف التاء، وهذا النوع من الأفعال يفيد في لسان العرب المطاوعة مثل قولهم : كسرت الزجاج فتكسر... ويفيد أيضا الإنتساب مثل قولهم: تنصر زيد أي إنتسب إلى النصرانية.
والمطاوعة للإرادة الإلهية، والإنتساب إليها، هما ركن الدين الركين، وأساس بنيانه المتين، لأن المطاوعة هي الرضا، وإلإنتساب هو التقوى: " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان"
هذا اليوم الجميل المبارك، الذي عسعس ليله وتنفس صبحه، هو يوم تدبر!! وحيثما كان التدبر، كان ذلك اليوم الجميل المبارك ، هو يوم الله في الأرض، والمشار إليه في لطف بالغ في قوله:" يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون" .
التدبر يعني أن ننظر دوما وأبدا ، في مجرى الفكر في عقولنا، نظرا ثاقبا دائما... نتدبر دون أن نتدخل!! ماذا يجري إذا فعلنا هذا؟ سوف تجد أن جميع أفكارنا تختفي في غيابت جب عميق!! لاتجد شيئا أمامك، فقد إختفى كل شئ... إذا إختفت الأشياء ظهر الله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده"
هذا قول محقق، وعليك الا تمر عليه مرورا عابرا، بل قف عنده طويلا، وتحقق منه ، ولاتنقله عني أو عن غيري، بل جربه بنفسك، واجعله شغلك الشاغل، يتاكد لك صحة كل ما قلته لك، وما قاله العارف النابلسي قبلنا:
وحقق وأقطع الأحبال وامسك دونها حبلي
وسد الباب من غيري وعالج وافتتح قفلي
وإني هدهد الأخبار للقوم الأولى قبلي
ومن قولي أنا أملي وإني فوق ما أملي
عليً الله قيوم بلا شبه ولامثل
وإني ذلك القيوم لما قمت عن حملي
وقد جردت عن ملكي وعن علمي وعن جهلي
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها!! إذا بلغ التدبر غايته، فإنك سوف تتجرد عن نفسك وتخرج من قيودها، وتكون قيوما سائرا خلف قيوم ، ومحسنا سائرا خلف محسن: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان*فبأي آلاء ربكما تكذبان"
السير خلف الله هو حالة التجرد المرموز إليها في القرآن الكريم، بكلمة التقوى... تلك هي غاية التدبر.. إذا كان الأمر بهذا اليسر فلماذا لانتدبر؟؟ ماذا يمنعك من التدبر، وماذا يمنعني من التدبر؟
الجواب: وجود تصاوير على حواشي القلوب
هذه التصاوير موجودة على شكل أقفال: " أفلا يتدبرون القرآن!! أم على قلوب أقفالها" قفل يعني أغلق.. تدبر عقلك الآن تجده مغلقا مقفولا لا يتصل بقلبك ، ولا يفكر في المعنى الحقيقي لخلق الله للبشر، كيف ومتى ولماذا؟ وماهو إبليس والشياطين والملائكة والجنة والنار، وكيف ومتى ولماذا؟ لا يفكر في المعنى الحقيقي للموت!! القلب المقفول المغلق، يكتفي برواية القدماء، ويمنع صاحبه من التدبر وفحص أحاديث القدماء ببصيرة نقية ورؤية محايدة.
التدبر يقود إلى تتبع آيات الله وعلاماته في الوجود، وهذا يعني الغوص في اللباب.. ومن غاص في اللباب تذكر: " ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب"... فما هو التذكر؟
ثانيا: التذكر
الذكر هو العلة في نزول القرآن، أقرأ : " ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر" ثم أقرأ: " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" ولكن يتذكرون ماذا؟ إن الإجابة على هذا السؤال، تقع في مجال إحدى كبريات حقائق الدين، ولايجيب على هذا السؤال إلا من تدبر... إلا من أدبر ليله وأسفر صبحه:" والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر* إنها لإحدى الكبر"
قد يقول لك قائل سوف يذكرون الله!! ولكن كيف يذكرون من لايحويه الزمان والمكان؟؟ كيف يذكر المحدود المطلق؟؟ وكيف يذكر الحادث القديم ؟؟ بل كيف تذكر من لم تره أبدا!!
كل من تدبر في خلفيته العقلية، وجد أن جميع أفكاره، تنبع من ذاكرته... انت لا تتذكر إلا ما كنت تعلمه من قبل... ومهما طال عمر الإنسان، فإنه لا يتذكر إلا تجاربه السابقة.
إذن الإنسان بحالته العقلية الراهنة ، لا يتذكر الله، وما ينبغي له وما يستطيع، وإن ذكره الأنبياء بالله العظيم: " وإذا ذكروا لايذكرون" وسبب ذلك أن الإنسان لا يتذكر إلا هذه الذاكرة الموروثة والمكتسبة: " أو لم نعمركم ، ما يتذكر فيه من تذكر"... أنت لاتتذكر إلا ما كنت تعرف من قبل... أمر في غاية البداهة، ولكننا قوم ذهلنا عن الأمور البديهية!!
إذن المطلوب هو أن تعرف نفسك... المطلوب أن تتذكر نفسك... من ههنا فإنك سوف تستطيع أن تفهم القرآن فهما أحسن من ذي قبل... تستطيع أن تعقل قوله: " لقد أنزلنا إليكم كتابا، فيه ذكركم، أفلا تعقلون"... إذا تذكرت نفسك، فإنك سوف تعلم أن قصة حياتك هي نفس قصة الذين كانوا قبلك ، ونفس قصة الذين جاءوا معك: " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي".... على جبين كل إنسان مكتوبة قصة الإنسانية جمعاء، فالفرد البشري يحكي قصة النوع البشري.
إذن جميع القصص الواردة في القرآن هي قصة واحدة، وإن إختلفت تفاصيلها وأدوارها ... قصص القرآن معبر لمعرفة قصة نفسك التي بين يديك، ويدرك هذا كل لبيب:" " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ "... هذا يعني فيما يعني أن دم هابيل ، هو دم قابيل، وأن قابيل لم يسفك إلا دمه: " وإذ أخذنا ميثاقكم ، لا تسفكون دماءكم" قال دماءكم ولم يقل دماء غيركم.
فإذاعبرت جميع القصص ، فإنك تتجاوز نفسك، وتعلم أن النفس ليس لها وجود ، وليس لها كيان، نفسك ليست سوى واحدة من تلك القصص التي تجاوزتها: " أو لايذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا"... تذكر هذه الآية ، وأقرأها في نفس واحد مع قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده".
بفضل الفناء المحض المذكور في الآيتين تدرك أن النفس واحدة، هي نفسه تبارك وتعالى: "يا ايها الناس ، إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" و خلق منها زوجها ، إشارة إلى تعدد النفس الواحدة في كل الرجال وفي كل النساء، وبفضل هذه الزوجية يكون الذكر: " ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون" ولكننا قليلا ما نتذكر، أن نفوسنا تجئ من الماء وتذهب كالهواء!! ولكننا قليلا ما نتذكر، انه لا توجد في حقيقة الأمر نفس مع نفس الله: " أأله مع الله قليلا ما تذكرون" وقد رمز إلى النفس بكلمة " إله" لأن النفس هي إله كل من لم يتجاوزها: " أرايت من إتخذ إلهه هواه"
بين فكي هذا الفناء المحض، المعبر عن إنسانه بقوله " لم يك شيئا" وعن إلهه بقوله " ولم يجده شيئا" تنسى نفسك التي ما فتأ عقلك يذكرك بها في كل يوم، فيقوم على أنقاض هذا النسيان بنيان الفتح، في كل أبواب عقلك، بلا كيفية، وبلا إرادة منك: " فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شئ" ولا يوجد أحد هنا ليصف لك ماذا تذكر؟ هنا وهنا فقط تذكر الله ويذكرك الله جزاء وفاقا: " فاذكروني أذكركم" فيطمئن قلبك بذكر الله لك:" الا بذكر الله تطمئن القلوب".
ويكون ذكرالله بجميع الكيفيات ، وفي جميع الأوقات، بلا غفلة عنه !! فإذا غفلت بفعل غواشي الجبلةالبشرية، فإنك تتفكر في خلق الله للسموات والأرض: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"
إذن الذكر ينتهي بك إلى التفكر، فماهو التفكر؟؟
ثالثا: التفكر
قلنا إن القرآن قد أنزل من أجل الذكر، وقد بينا قبل قليل، طرفا من معنى الذكر، ونزيد الآن ونقول، إن الله لم يضرب في القرآن من كل الأمثال،إلا من أجل هذه الغاية السامية، غاية أن نتذكر : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون" ولكن الناس لم يتذكروا ما صرفه لهم ربهم، تصريفا بليغا واضحا.
لماذا لم يتذكر الناس؟
الجواب: لأنهم كانوا ومازالوا يجادلون ربهم: " ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، وكان الإنسان أكثر شئ جدلا"... وكان الإنسان أكثر شئ جدلا يعني ان الأنسان هو مجرد شئ من ضمن الأشياء، ولكنه أكثر شئ من الأشياء جدلا لربه، وذلك لعمري مدح في قالب ذم، بل أبلغ المدح ، في أعظم الذم، وما يعقلها إلا العالمون.
وأحب أن أنوه في هذا المقام الأسنى ، والمورد الأحلى ، أن جميع الأنبياء المذكورين في القرآن ، إبتداء بآدم الأب الجسماني، وإنتهاء بمحمد الإبن الروحاني، قد ذكروا على سبيل ضرب الأمثال، ليتذكر الناس مثليتهم لهم: " إنما أنا بشر مثلكم" ثم ليتجاوزوا مثليتهم للإنبياء إلى الله الذي وراء الأنبياء، ووراءك وورائي: " والله من ورائهم محيط".
فإذا قام الناس بالله، كانوا هم هو: " إن تكن بالله قائم لم تكن، بل أنت هو... أنت ظل الغيب من أسمائه والشمس هو"... وهذا طرف من معنى القيامة المبثوثة أخبارها في القرآن الكريم، بل إن القرآن ينتهي هداه في هذه القيامة ، عندما نتذكر الله: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ومن التي هي أقوم، أشتق الصراط المستقيم، فالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم.
فآدم مجرد مثل وعيسى مجرد مثل... وهو مثل واحد في المضمون، وان إختلف في الشكل: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" وما يقال عن المثل العيسوي والمثل الآدمي، يقال عن سائر البشر... فأنت آدم وأنت عيسى، في شكل جديد!! وأنا آدم وأنا عيسى في شكل جديد!! قد يبدو هذا الكلام غير معقول، ولكنه الحق الذي يعقله كل عالم بحقيقة الأمر: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون"
ونعود فنقول :من أجل ماذا أنزل الذكر؟
الجواب : الذكر أنزل من أجل الفكر: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" ...والسؤال الحقيقي ليس : فيما ذا يتفكرون ؟ وإنما: كيف يتفكرون؟؟
أعلم ، افادك الله، وفتح بيني وبينك بالحق، أن هناك تفكيرا ثنائيا شفعيا، يقوم على زوجية الماضي والمستقبل، وهذا هو حظ البشر جميعا، على تفاوت بينهم في المقدار والدقة، وهناك تفكير فردي وتري، يقوم على الوعي باللحظة الحاضرة، وهذا مقصور معارفه على خيام عقول العارفين بالله: " حور مقصورات في الخيام"
وقد وردت الإشارة إلى اللونين من التفكر في قوله: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا" أن تقوموا لله مثنى ، إشارة للقيامة الصغرى التي يقوم فيها عامة البشر، بالتفكر الثنائي الشفعي، القائم بالماضي والمستقبل، وعليهما وفيهما ، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها كلمة " الدنيا"
قوله: " فرادى" إشارة للقيامة الكبرى ، التي يقوم فيها الذين أنعم الله عليهم من البشر بالتفكر الفردي الوتري القائم باللحظة الحاضرة، وعليها وفيها، والمرموز إليه في القرآن الكريم، برموز شتى أشهرها، كلمة " الآخرة".
والتفكر هو من علوم الآخرة التي يبينها الله لمن يشاء من عباده، فيتفكرون تفكيرا ثنائيا شفعيا في أمور الدنيا، ويتفكرون تفكيرا وتريا فرديا في أمور الآخرة ، كما هو واضح من قوله: " يبين الله لكم الآيات، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة" .
ولما كانت علوم الآخرة من علوم الإيقان: " وبالآخرة هم يوقنون" كان العلم بتأويل القرآن من علوم الآخرة، التي تظل الدنيا بظلالها الفطرية الوريفة، في حق كل ولي آتاه الله من ملكه العظيم: " رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السماوات والأرض، أنت ولي في الدنيا والآخرة"
والغريب أن الآخرة بقيامتها الكبرى موجودة الآن، لأن الآخرة هي اللحظة الحاضرة... الآخرة موجودة الآن لولا أن سلطان الغفلة ، أعمانا عنها ، كما هو واضح في قوله : " وهم عن الآخرة هم غافلون".... ولم يكتف علمنا القاصر، بعدم إدراك الآخرة بل شككنا في وجود الآخرة ، واعمانا عنها: " بل إدارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منها، بل هم منها عمون" ... وفي تكرار حرف العطف "بل" ثلاث مرات في هذه الآية القصيرة، عذبة الأجراس، من دقائق الأسرار، و لطائف المعاني ، ما يخلب لب كل من أغدق الله عليه بدائع المعارف.. فإن لم يصبك وابل بدائع المعارف ، أصابك طل روائع اللغة، لأن حرف العطف "بل" في لسان العرب، يسلب الحكم عما قبله ويثبته لما بعده.
والأغرب من ذلك أن الدنيا بقيامتها الصغرى غير موجودة الآن ، لأن الدنيا هي ذبذبة عقولنا بين الماضي والمستقبل، وبالطبع فإن الماضي والمستقبل غير موجودين الآن ... وغني عن البيان أن القيامة الكبرى (الآخرة) تشمل القيامة الصغرى (الدنيا) ولكن القيامة الصغرى لاتشمل القيامة الكبرى، لأن الجزء لا يشمل الكل، وهذا هو معنى قوله: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب)... هذا معنى جد ظاهر، ولكننا قوم غافلون.
وسبب الغفلة، أننا لم نحقق، ولم نتحقق من ذكر الرحمن، فقيض الله لنا من شيطان عقولنا قرينا، أنسانا الآخرة الموجودة، وذكرنا بالدنيا المفقودة، أعني أنسانا اللحظة الحاضرة الماثلة أمام أعيننا ، وذكرنا باللحظة الماضية التي فاتت من خلفنا أو اللحظة المقبلة التي لم تأت وما زالت أمامنا : " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين"
وأحب أن أنوه في هذا المقام، أن الفكر الشفعي الثنائي، هو فكر مادي دائري دنيوي، يعيش ليأكل ويأكل ليعيش، ويحي ويموت، ولايخرج من دائرة الثنائية أبدا ، حتى ولو فكر وقدر، فإنه يقتل كيفما قدر: " إنه فكر وقدر* فقتل كيف قدر* ثم قتل كيف قدر" ولا يجدي أن يعيد النظر في الثنائية، لأنها دائرية، قصارا ها التعب والغضب: " ثم نظر* ثم عبس وبسر"
ولا تقل لي إن هذه الآيات قد نزلت في زيد أو عبيد، فكلنا زيد، وكلنا عبيد: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون